للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وإن أعجبت بجاهك في دنياك فتفكر في مخالفيك وأندادك ونظائرك ولعلهم أخساء وضعاء سقاط. فاعلم أنهم أمثالك فيما أنت فيه ولعلهم ممن يستحيي من التشبه بهم لفرط رذالتهم وخساستهم في أنفسهم وفي أخلاقهم ومنابتهم، فاستهن بكل منزلة شارك فيها من ذكرت لك.

إن كنت مالك الأرض كلها ولا خليفة عليك - وهذا بعيد جداً في الإمكان، فما نعلم أحداً ملك معمور الأرض كلها على قلته وضيق مساحته بالإضافة إلى غامرها فكيف إذا أضيف إلى الفلك المحيط ...

وإن كنت ملك المسلمين كلهم، فاعلم أن ملك السودان وهو رجل أسود مكشوف العورة جاهل، يملك أوسع من ملكك. فإن قلت أخذته بحق، فلعمري ما أخذته بحق إذ استعملت فيه رذيلة العجب، وإذا لم تعدل فيه فاستحي من حالك، فهي حالة لا حالة يجب العجب فيها.

- علاج من أعجب بماله:

وإن أعجبت بمالك، فهذه أسوأ مراتب العجب فانظر في كل ساقط خسيس فهو أغنى منك، فلا تغتبط بحالة يفوقك فيها من ذكرت. واعلم أن عجبك بالمال حمق لأنه أحجار لا تنتفع بها إلا بأن تخرجها عن ملكك بنفقتها في وجهها فقط. والمال أيضاً غاد ورائح، وربما زال عنك ورأيته بعينه في يد غيرك، ولعل ذلك يكون في يد عدوك، فالعجب بمثل هذا سخف والثقة به غرور وضعف.

- علاج من أعجب بجماله وحسن منظره:

وإن أعجبت بحسنك ففكر فيما عليك مما نستحيي نحن من إثباته وتستحي أنت منه إذا ذهب عنك بدخولك في السن.

- علاج من أعجب بمدح الناس له:

وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك إياك، فحينئذ ينجلي عنك العجب، فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له، فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها، عافانا الله.

فإن استحقرت عيوبك ففكر فيها لو ظهرت إلى الناس وتمثل اطلاعهم عليها، فحينئذ تخجل وتعرف قدر نقصك إن كانت لك مسكة من تمييز ...

- علاج من أعجب بنسبه وأرومته:

وإن أعجبت بنسبك، فهذه أسوأ من كل ما ذكرنا، لأن هذا الذي أعجبت به لا فائدة له أصلاً في دنيا ولا آخرة. وانظر هل يدفع عنك جوعة أو يستر لك عورة أو ينفعك في آخرتك.

ثم انظر إلى من يساهمك في نسبك، وربما فيما هو أعلى منه ممن نالته ولادة الأنبياء عليهم السلام ثم ولادة الخلفاء، ثم ولادة الفضلاء من الصحابة والعلماء ثم ولادة ملوك العجم من الأكاسرة والقياصرة، ثم ولادة التبابعة وسائر ملوك الإسلام، فتأمل غبراتهم وبقاياهم ومن يدلي بمثل ما تدلي به من ذلك تجد أكثرهم أمثال الكلاب خساسة، وتلقهم في غاية السقوط والرذالة والتبذل والتحلي بالصفات المذمومة. فلا تغتبط بمنزلة هم نظراؤك أو فوقك.

- علاج من أعجب بفضل آبائه:

فإن أعجبت بولادة الفضلاء إياك، فما أخلى يدك من فضلهم إن لم تكن أنت فاضلاً، وما أقل غناءهم عنك في الدنيا والآخرة إن لم تكن محسناً، والناس كلهم ولد آدم الذي خلقه الله تعالى بيده، وأسكنه جنته وأسجد له ملائكته، ولكن ما أقل نفعه لهم، وفيهم كل عيب وكل فاسق وكل كافر.

وإذا فكر العاقل في أن فضائل آبائه لا تقربه من ربه تعالى ولا تكسبه وجاهة لم يحزها هو بسعده أو بفضله في نفسه ولا ماله، فأي معنى للإعجاب بما لا منفعة فيه ...

- علاج من طلب المدح عجباً بنفسه:

فإن تعدى بك العجب إلى الامتداح فقد تضاعف سقوطك، لأنه قد عجز عقلك عن مفارقة ما فيك من العجب. هذا إن امتدحت بحق، فكيف إن امتدحت بكذب! وقد كان ابن نوح وأبو إبراهيم وأبو لهب، عم النبي صلى الله عليه وعلى نوح وإبراهيم وسلم، أقرب الناس من أفضل خلق الله تعالى من ولد آدم وممن الشرف كله في اتباعهم، فما انتفعوا بذلك.

- علاج من أعجب بقوة جسمه أو خفته:

وإن أعجبت بقوة جسمك فتفكر في أن البغل والحمار والثور أقوى منك وأحمل للأثقال، وان أعجبت بخفتك، فاعلم أن الكلب والأرنب يفوقانك في هذا الباب. فمن أعجب العجيب إعجاب ناطق بخصلة يفوقه فيها غير الناطق ... )) (١).


(١) ((رسائل ابن حزم)) (١/ ٣٩٣).

<<  <  ج: ص:  >  >>