للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فزاد أن جعل الطّير والجيش سحابين، وجعل السّحاب الأسفل يسقى السّحاب الأعلى، فغرّب فى هذا، وقد تعنّته فى هذا البيت مقصّر (١) فى معرفة التّدقيق فى المعانى بأمرين، أحدهما: أنّ السحاب لا يسقى ما فوقه، والآخر: أنّ الطير لا تستسقى، وإنما تستطعم.

وأقول (٢): أمّا إسقاء السّحاب ما فوقه، وهو الذى غرّب به، فإنه لم يجعل الجيش سحابا فى الحقيقة فيمتنع إسقاؤه لما فوقه، وإنما أقامه مقام السّحاب؛ لأنه طبّق الأرض لكثرته وتزاحمه (٣)، وغطّاها كما يغطّى السحاب السماء، وقد فعلت العرب ذلك فى أشعارها، ولمّا سمّاه لذلك سحابا جعله يستسقى فيسقى، مع أن الطير لا تصيب من القتلى ما تصيبه وهى فى الجوّ، وإذا كانت تهبط إلى الأرض حتى تقع على القتيل فالسّحاب السّاقى عال عليها.

فأمّا استسقاء الطير فجار على عادة العرب فى استعارة هذه اللفظة تعظيما لقدر الماء. قال علقمة بن عبدة، يطلب أن يفكّ أخوه شأس من الأسر، يخاطب بذلك ملك الشام:

وفى كلّ حىّ قد خبطت بنعمة ... وحقّ لشأس من نداك ذنوب (٤)

وأصل الذّنوب الدّلو العظيمة، وقيل للنّصيب: ذنوب، فى قوله تعالى: {فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ} (٥) لأنهم كانوا يقتسمون الماء فيأخذ هذا ذنوبا وهذا ذنوبا. وقال رؤبة (٦):

يا أيّها المائح دلوى دونكا ... إنى رأيت الناس يحمدونكا


(١) هو العميدىّ فى الإبانة عن سرقات المتنبى، الموضع السابق.
(٢) القائل هو القاضى الجرجانى، كما ذكرت.
(٣) هنا وقفت مطبوعة الهند من الأمالى.
(٤) فرغت منه فى المجلس الثانى والسّتّين.
(٥) سورة الذاريات ٥٩.
(٦) هكذا ينسب ابن الشجرى الرجز لرؤبة متابعة للقاضى الجرجانى فى الوساطة، والكلام كلّه-