"فَمَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى أَنَّ الرُّسُلَ لَا رَيبَ وَلَا شَكَّ أَنَّهُمْ مَعْصُومُونَ، وَظَنَّ أَنَّ هَذَا يُنَافِي العِصْمَةَ! فَقَدَ غَلَطَ أَكْبَرَ غَلَطٍ، وَلَو فَهِمَ أَنَّ الأُمُورَ العَارِضَةَ لَا تُؤَثِّرُ فِي الأُمُورِ الثَّابِتَةِ لَمْ يَقِلِ قَولاً يُخَالِفُ فِيهِ الوَاقِعُ وَيُخَالِفُ بَعْضَ الآيَاتِ وَيَطْلُبُ التَّأْوِيلَاتِ المُسْتَبْعَدَاتِ!
وَمِنْ هَذَا -عَلَى أَحَدِ قَولِي المُفَسِّرِينَ- قَولُهُ تَعَالَى عَنْ يُونُسَ: ﴿فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ﴾ [الأَنْبِيَاءُ: ٨٧]، وَأَنَّهُ ظَنٌّ عَرَضَ فِي الحَالِ ثُمَّ زَالَ، نَظِيرُ الوَسَاوِسِ العَارِضَةِ فِي أَصْلِ الإِيمَانِ الَّتِي يَكْرَهُهَا العَبْدُ حِينَ تَرِدُ عَلَى قَلْبِهِ، وَلَكِنَّ إِيمَانَهُ وَيَقِينَهُ يُزِيلُهَا وَيُذْهِبُهَا، وَلِهَذَا قَالَ ﷺ عِنْدَمَا شَكَا إِلَيهِ أَصْحَابُهُ هَذِهِ الحَالَ الَّتِي أَقْلَقَتْهُمْ مُبَشِّرًا لَهُمْ: ((الحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي رَدَّ كَيدَهُ إِلَى الوَسْوَسَةِ)) (١)، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ هَذَا صَرِيحُ الإِيمَانِ.
وَيُشْبِهَ هَذَا: العَوَارِضُ الَّتِي تَعْرِضُ فِي إِرَادَاتِ الإِيمَانِ لِقُوَّةِ وَارِدٍ مِنْ شَهْوَةٍ أَو غَضَبٍ، وَأَنَّ المُؤَمَّنَ الكَامِلَ الإِيمَانِ قَدْ يَقَعُ فِي قَلْبِهِ هَمٌّ وَإِرَادَةٌ لِفِعْلِ بَعْضِ المَعَاصِي الَّتِي تُنَافِي الوَاجِبَ ثُمَّ يَأْتِي بُرْهَانُ الإِيمَانِ، وَقُوَّةُ مَا مَعَ العَبْدِ مِنِ الإِنَابَةِ التَّامَّةِ فَيَدْفَعُ هَذَا العَارِضَ.
وَمِنْ هَذَا: قَولُهُ تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ ﵊: ﴿وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يُوسُف: ٢٤]، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا رَجَعَ إِلَى مَا مَعَهُ مِنِ الإِيمَانِ وَمُرَاقَبَةِ اللَّهِ وَخَوفِهِ وَخَشْيَتِهِ وَرَجَائِهِ دَفَعَ عَنْهُ هَذَا الهَمَّ وَمُوجِبَهُ وَاضْمَحَلَّ، وَصَارَتْ إِرَادَتُهُ التَّامَّةُ فِيمَا يُرْضِي رَبَّهُ، وَلِهَذَا فَازَ بِمَرْتَبَةِ الصِّدِّيقِيَّةِ لِقُوَّةِ إِخْلَاصِهِ وَإِيمَانِهِ بِآيَاتِ رَبِّهِ، وَانْتَصَرَ
(١) صَحِيحٌ. أَحْمَدُ (٢٠٩٧) مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَرْفُوعًا. وَصَحَّحَهُ الشَّيخُ أَحْمَدُ شَاكِر ﵀ فِي تَحْقِيقِ المُسْنَدِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute