مَا يَتَنَاقَلُهُ النَّاسُ -حَتَّى صَارَ ذَلِكَ عَقِيدَةً رَاسِخَةً فِي قُلُوبِ كَثِيرٍ مِنْهُم- وَهُوَ أَنَّ النُّورَ المُحَمَّدِيَّ هُوَ أَولُ مَا خَلَقَ اللهُ ﵎! وَلَيسَ لِذَلِكَ أَسَاسٌ مِنَ الصِّحَّةِ، وَحَدِيثُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ غَيرُ مَعْرُوفٍ إِسْنَادُهُ، وَلَعَلَّنَا نُفْرِدُهُ بِالكَلَامِ في الأَحَادِيثِ الضَّعِيفَةِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.
وَفِيهِ رَدُّ عَلَى مَنْ يَقُولُ بِأَنَّ العَرْشَ هُوَ أَوَّلُ مَخْلُوقٍ! وَلَا نَصَّ فِي ذَلِكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ ﵌، وَإِنَّمَا يَقُولُ بِهِ مَنْ قَالَهُ كَابْنِ تَيمِيَّةَ وَغَيرِهِ اسْتِنْبَاطًا وَاجْتِهَادًا، فَالأَخْذُ بِهَذَا الحَدِيثِ -وَفِي مَعْنَاهُ أَحَادِيثُ أُخْرَى- أَولَى لِأَنَّهُ نَصٌّ فِي المَسْأَلَةِ، وَلَا اجْتِهَادَ فِي مَورِدِ النَّصِّ كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَتَأْويلُهُ بِأَنَّ القَلَمَ مَخْلُوقٌ بَعْدَ العَرْشِ بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ مِثْلُ هَذَا التَّأْويلِ لَو كَانَ هُنَاكَ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ العَرْشَ أَوَّلُ المَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا -وَمِنْهَا القَلَمُ-، أَمَا وَمِثْلُ هَذَا النَّصِّ مَفْقُودٌ، فَلَا يَجُوزُ هَذَا التَّأْوِيلُ" (١).
قُلْتُ: وَعَلَى هَذَا الكَلَامِ الأَخِيرِ تَكُونُ جُمْلَةُ ((وَعَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)) اسْتِئْنَافِيَّةً، فِيهَا عَطْفُ إِخْبَارٍ وَلَيسَ عَطْفُ زَمَانٍ.
وَهَذَا لَهُ نَظَائِرُ فِي اللُّغَةِ، وَمِنْهُ قَولُ اللهِ تَعَالَى فِي سُورَةِ السَّجْدَةِ: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ [السَّجْدَة: ٧ - ٩]، فَهُنَا أَخَّرَ ذِكْرَ نَفْخِ الرُّوحِ مَعَ أَنَّهُ بَينَهُمَا؛ لِأَجْلِ أَنْ يَتَنَاسَبَ ذِكْرُ الأَطْوَارِ الَّتِي يَمُرُّ بِهَا الإِنْسَانُ فِي تَكْوِينِهِ، وَهِيَ الطَّينُ ثُمَّ المَاءُ. وَاللهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
(١) الصَّحِيحَةُ (١٣٣).
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute