للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَلَكنَّهُ مِنْ بَابَ الكَرَامَاتِ الَّتِي أَكْرَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِهَا -لَهُ وَلِغَيرِهِ- وَنَفَعَ اللهُ بِهَا النَّاسَ، وَلَمْ يَقُلْ عُمَرُ ﵁ يَومًا إِنَّهُ يَعْلَمُ الغَيبَ؛ وَلَا قَالَهُ أَحَدٌ عَنْهُ، بَلْ ولَا أَنَّهُ اطَّلَعَ عَلَى الغَيبِ أَصْلًا!

وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الرِّوَايَةَ الَّتِي صَحَّتْ فِي ذَلِكَ هِيَ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ﵄؛ قَالَ: (وَجَّهَ عُمَرُ جَيشًا، وَرَأَّسَ عَلَيهِمْ رَجُلًا يُدْعَى سَارِيَةَ، فَبَينَا عُمَرُ ﵁ يَخْطُبُ جَعَل يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ، الجَبَلَ! -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، ثُمَّ قَدِمَ رَسُولُ الجَيشِ فَسَأَلَهُ عُمَرُ، فَقَال: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ هُزِمْنَا، فَبَينَا نَحْنُ كَذَلِكَ إِذْ سَمِعْنَا صَوتًا يُنَادِي: يَا سَارِيَةُ إِلَى الجَبَلِ! -ثَلَاثَ مَرَّاتٍ-، فَأَسْنَدْنَا ظُهُورَنَا إِلَى الجَبَلِ؛ فَهَزَمَهُمُ اللهُ تَعَالَى -وَكَانَتِ المَسَافَةُ بَينَ المَدِينَةِ حَيثُ كَانَ يَخْطُبُ عُمَرُ وَبَينَ مَكَانِ الجَيشِ مَسِيرَةَ شَهْرٍ- فَقيلَ لِعُمَرَ: إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ) (١). فَلَيسَ فِيهَا عِلْمُهُ بِمَا وَقَعَ لَهُم؛ وَإِنَّمَا جَرَى مِنْهُ كَلَامٌ أَثْنَاءَ خُطْبَتِهِ دُونَ قَصْدٍ مِنْهُ أَصْلًا وَلَا عِلْمٍ، وَدَلِيلُ ذَلِكَ سُؤَالُهُ رَسُولَ الجَيشِ مَا جَرَى مَعَهُ، وَأَيضًا قَولُ النَّاسِ لَهُ: (إِنَّكَ كُنْتَ تَصِيحُ بِذَلِكَ!) (٢).

عَلَى أَنَّهُ حَتَّى لَو كَانَ عُمَرُ قَدْ رَأَى ذَلِكَ فَيَبْقَى مِنْ بَابِ الكَرَامَاتِ، وَلَيسَ مِنْ بَابِ أَنَّهُ مُطَّلِعٌ عَلَى الغَيبِ، وَقَدْ سَبَقَ أَنَّ الاطْلَاعَ عَلَى الغَيبِ لَا يَكُونُ إِلَّا لِلرُّسُلِ، وَإلَّا فَهَّلا اطَّلَعَ ﵁ عَلَى مَنْ هُوَ أَقْرَبُ مِنْ سَارِيَةَ وَأَشَدُّ خَطَرًا مِنْهُ عَلَيهِ ألَا وَهُوَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ المَجُوسِيُّ الَّذِي طَعَنَهُ فِي الصَّلَاةِ -وَهُوَ خَلْفهُ فِي الصُّفُوفِ- وَلَا يَحْتَاجُ لِكَثِيرِ


(١) صَحِيحٌ. الاعِتْقَادُ لِلبَيهَقِيِّ (١/ ٣١٤) عَنِ ابْنِ عُمَرَ. الصَّحِيحَةُ (١١١٠).
وَأَمَّا بَقِيَّةُ الطُّرُقِ الَّتِي فِيهَا أَنَّ عُمَرَ ﵁ اطَّلَعَ عَلَى أَحْوَالِهِم فَقَالَ ذَلِكَ! فَضَعِيفَةٌ وَاهِيَةٌ، وَأَمَّا مَا أَثْبَتْنَاهُ فَهُوَ صَحِيحٌ، وَقَالَ عَنْهُ ابْنُ كَثِيرٍ ﵀ فِي كِتَابِهِ البِدَايَةُ وَالنِّهَايَةُ (١٠/ ١٧٥): "هَذَا إِسْنَادٌ جَيِّدٌ حَسَنٌ".
(٢) قالَ الذَّهَبيُّ ﵀ فِي كِتَابِهِ تَارِيخُ الإِسْلَامِ (٣/ ٢٤٩): "وَيُرْوَى أَنَّ عُمَرَ سُئِلَ فِيمَا بَعْدُ عَنْ كَلَامِهِ (يَا سَارِيَةُ؛ الجَبَلَ) فَلَمْ يَذْكُرْهُ".

<<  <  ج: ص:  >  >>