للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَأَمَرَهُ بِفِعْلِ مُحَرَّمٍ فَخَافَهُ -وَهُوَ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُنْفِذَ مَا هَدَّدَهُ بِهِ- أَوْ خَوَّفَهُ بِمَا لَهُ بِهِ طَاقَةٌ؛ فَهَذَا خَوفٌ مُحَرَّمٌ، لِأَنَّه يُؤَدِّي إِلَى فِعْلٍ مُحَرَّمٍ بِلَا عُذْرٍ (١)، وَهَذَا النَّوعُ مُنَافٍ لِكَمَالِ التَّوحِيدِ الوَاجِبِ (٢).


(١) قَالَ الحَافِظُ ابْنُ حَجَرٍ فِي الفَتْحِ (١٣/ ٥٣): "قَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي الأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَجِبُ مُطْلَقًا وَاحْتَجُّوا بِحَدِيثِ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ رَفَعَهُ: ((أَفْضَلُ الجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ))، وَبِعُمُومِ قَولِهِ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) الحَدِيثَ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: يَجِبُ إِنْكَارُ المُنْكَرِ؛ لَكِنَّ شَرْطَهُ أَنْ لَا يَلْحَقَ المُنْكِرَ بَلَاءٌ لَا قِبَلَ لَهُ بِهِ مِنْ قَتْلٍ وَنَحْوِهِ، وَقَالَ آخَرُونَ: يُنْكِرُ بِقَلْبِهِ لِحَدِيثِ أُمِّ سَلَمَةَ مَرْفُوعًا: ((يُسْتَعْمَلُ عَلَيكُمْ أُمَرَاءُ بَعْدِي، فَمَنْ كَرِهَ فَقَدْ بَرِئَ، وَمَنْ أَنْكَرَ فَقَدْ سَلِمَ، وَلَكِنْ مَنْ رَضِيَ وَتَابَعَ)) الحَدِيث. قَالَ: وَالصَّوَابُ اعْتِبَارُ الشَّرْطِ المَذْكُورِ، وَيَدُلُّ عَلَيهِ حَدِيثُ: ((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) ثُمَّ فَسَّرَهُ بِأَنْ: ((يَتَعَرَّضَ مِنَ البَلَاءِ لِمَا لَا يُطِيقُ)). انْتَهَى مُلَخَّصًا. وَقَالَ غَيرُهُ: يَجِبُ الأَمْرُ بِالمَعْرُوفِ لِمَنْ قَدَرَ عَلَيهِ وَلَمْ يَخَفْ عَلَى نَفْسِهِ مِنْهُ ضَرَرًا".
قُلْتُ: وَحَدِيثُ طَارِقِ بْنِ شِهَابٍ صَحِيحٌ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ (٤٣٤٤). صَحِيحُ أَبِي دَاوُدَ (٤٣٤٤).
وَأَمَّا حَدِيثُ: ((مَنْ رَأَى مِنْكُمْ مُنْكَرًا فَلْيُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ)) فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (٤٩) عَنْ أَبي سَعِيدٍ مَرْفُوعًا.
وَأمَّا حَدِيثُ أُمِّ سَلَمَةَ فَقَدْ رَوَاهُ مُسْلِمٌ (١٨٥٤) أَيضًا.
وَأمَّا حَدِيثُ: ((لَا يَنْبَغِي لِمُؤْمِنٍ أَنْ يُذِلَّ نَفْسَهُ)) فَهُوَ صَحِيحٌ. التِّرْمِذِيُّ (٢٢٥٤) عَنْ حُذَيفَةَ مَرْفُوعًا. الصَّحِيحَةُ (٦١٣).
(٢) فَمَنْ خَشِيَ أَحَدًا أَكْثَرَ مِنْ خَشْيَتِهِ مِنَ اللهِ تَعَالَى -لَيسَ خَوفَ العُبُودِيَّةِ- فَهُوَ الخَوفُ المُحَرَّمُ، وَهُوَ كَمَنْ أَحَبَّ غَيرَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مَحَبَّةِ اللهِ -وَلَكِنْ أَيضًا لَيسَ مَحَبَّةَ العُبُوديَّةِ-.
قَالَ الطَّبَرِيُّ فِي التَّفْسِيرِ (٨/ ٥٤٧) عِنْدَ تَأْوِيلِ قَولِهِ تَعَالَى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَينَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [النِّسَاء: ٧٧]: "ذُكِرَ أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَومٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسولِ اللهِ كَانُوا قَدْ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوهُ قَبْلَ أَنْ يُفْرَضَ عَلَيهِمُ الجِهَادُ -وَقَدْ فُرِضَ عَلَيهِم الصَّلَاةُ وَالزَّكَاةُ- وَكَانُوا يَسْأَلُونَ اللهَ أَنْ يَفْرِضَ عَلَيهِمُ القِتَالَ، فَلَمَّا فُرِضَ عَلَيهِمُ القِتَالُ شَقَّ عَلَيهِم ذَلِكَ وَقَالُوا مَا أَخْبَرَ اللهُ عَنْهُم فِي كِتَابِهِ".

<<  <  ج: ص:  >  >>