للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فهذا البابُ مبنيٌّ على دفع أعظم المفسدتين بأدناهما، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، فإن فُرِض الشكُّ وتساوي الأمرين لم يجُز رميُ الأسرى؛ لأنه على يقينٍ مِنْ قتلهم، وعلى ظنٍّ وتخمينٍ مِنْ قتل أصحابه وهلاكهم، ولو قُدِّر أنهم تيقَّنوا ذلك ولم يكن في قتلهم استباحةُ بيضة الإسلام وغلبةُ العدوِّ على الدِّيار لم يجُز أن يَقُوا نفوسَهم بنفوس الأسرى، كما لا يجوزُ للمُكرَه على قتل المعصوم أن يقتله ويَقِيَ نفسَه بنفسه، بل الواجبُ عليه أن يستسلم للقتل ولا يجعل النفوسَ (١) المعصومة وقايةً لنفسه.

* وأمَّا إذا أُلقِيَ في مركبهم نار؛ فإنهم يفعلون ما يَرَوْن السَّلامة فيه، وإن شكُّوا: هل السَّلامةُ في مقامهم أو في وقوعهم في الماء؟ أو تيقَّنوا الهلاكَ في الصُّورتين، أو غلبَ على ظنِّهم غلبةً متساويةً لا يترجَّحُ أحدُ طرفيها، ففي الصُّور الثَّلاث قولان لأهل العلم (٢)، وهما روايتان منصوصتان عن أحمد:

إحداهما: أنهم يخيَّرون بين الأمرين، لأنهما موتتان قد عَرَضتا لهم، فلهم أن يختاروا أيسرهما عليهم، إذ لا بدَّ من أحدهما، وكلاهما بالنسبة إليهم سواءٌ، فيخيَّرون بينهما.

والقولُ الثَّاني: أن يلزمهم المقام، ولا يُعِينون على أنفسهم، لئلَّا يكون موتُهم بسببٍ من جهتهم، وليتمحَّصَ موتُهم شهادةً بأيدي عدوِّهم.

* وأمَّا الذي ضاق عليه وقتُ الوقوف بعرفة والصَّلاة؛ فإنَّ الواجبَ في


(١) (د): «النفس».
(٢) انظر: «المغني» (١٣/ ١٩٠)، و «الواضح» (٥/ ٤٣٣).