للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ومثالُ ذلك: أنَّ الله تعالى حرَّم الميتة والدَّم ولحمَ الخنزير؛ لما في تناولها من المفسدة الراجحة؛ وهو خبثُ التَّغذية، والغاذي شبيهٌ بالمُغْتَذِي (١)، فيصيرُ المُغْتَذي بهذه الخبائث خبيثَ النَّفس؛ فمن محاسن الشريعة تحريمُ هذه الخبائث.

فإن اضطرَّ إليها وخاف على نفسه الهلاكَ إن لم يتناولها أُبيحَت له، فهل إباحتُها والحالةُ هذه مع بقاء وصف الخبث فيها، لكن عارضه مصلحةٌ أرجحُ منه وهي حفظُ النَّفس، أو إباحتُها أزالت وصفَ الخبث منها، فما أُبيحَ له إلا طيِّبٌ وإن كان خبيثًا في حال الاختيار؟

قيل: هذا موضعٌ دقيق، وتحقيقُه يستدعي اطلاعًا على أسرار الشريعة والطَّبيعة، فلا تَسْتَهوِنْه وأعطِه حقَّه من النَّظر والتأمُّل. وقد اختلف النَّاسُ فيه على قولين:

فكثيرٌ منهم ــ أو أكثرهم ــ سلك مسالكَ التَّرجيح مع بقاء وصف الخبث فيه، وقال: مصلحةُ حفظ النَّفس أرجحُ من مفسدة خبث التَّغذية.

وهذا قولُ من لم يحقِّق النَّظر، ويُمْعِن التأمُّل، بل استرسل مع ظاهر الأمر، والصَّوابُ أنَّ وصفَ الخبث منتفٍ حال الاضطرار.

وكشفُ الغطاء عن المسألة: أنَّ وصفَ الخبث غيرُ مستقلٍّ بنفسه في المحلِّ المُغْتَذى به، بل هو متولِّدٌ من القابل والفاعل، فهو حاصلٌ من المُغْتَذِي والمُغْتَذى به، ونظيرُه تأثيرُ السُّمِّ في البدن، هو موقوفٌ على الفاعل والمحلِّ القابل.


(١) انظر: «القانون» (١/ ١٥٠)، و «الحاوي» (٢/ ٥٥٨)، وما مضى (ص: ٦٦٩).