ومُثْبِتُو التَّحسين والتقبيح أجابوا عن ذلك بأنَّ المصلحة كما تنشأ من الفعل فإنها أيضًا قد تنشأ من العزم عليه وتوطين النَّفس على الامتثال، وتكونُ المصلحةُ المطلوبةُ هي العزمَ وتوطينَ النَّفس، لا إيقاعَ الفعل في الخارج، فإذا أُمِرَ المكلَّفُ بأمرٍ، فعَزم عليه وتهيَّأ له ووطَّن نفسَه على امتثاله، فحصلت المصلحةُ المرادةُ منه= لم يمتنع نسخُ الفعل وإن لم يوقِعْه؛ لأنه لا مصلحة له فيه.
وهذا كأمر إبراهيمَ الخليل بذبح ولده؛ فإنَّ المصلحة لم تكن في ذبحه، وإنما كانت في استسلام الوالد والولد لأمر الله، وعَزْمِهما عليه، وتوطينهما أنفسَهما على امتثاله، فلما حصلت هذه المصلحةُ بقي الذَّبحُ مفسدةً في حقِّهما، فنسخَه الله ورفعه.
وهذا هو الجوابُ الحقُّ الشافي في المسألة، وبه تتبيَّنُ الحكمةُ الباهرةُ في إثبات ما أثبته الله من الأحكام، ونَسْخ ما نسَخه منها بعد وقوعه ونَسْخ ما نسَخ منها قبل إيقاعه، وأنَّ له في ذلك كلِّه من الحِكَم البالغة ما تشهدُ له بأنه أحكمُ الحاكمين، وأنه اللطيفُ الخبير، الذي بهرت حكمتُه العقول، فتبارك الله ربُّ العالمين.
* ومما احتجَّ به النُّفاة أيضًا: أنه لو حَسُنَ الفعلُ أو قَبُحَ لغير الطَّلب لم يكن تعلُّق الطَّلب لنفسه؛ لتوقُّفه على أمرٍ زائد.
(١) انظر: «البرهان» (٢/ ١٣٠٣)، و «المستصفى» (١/ ٢١٥)، و «قواطع الأدلة» (٣/ ١١٠)، و «الفنون» (١/ ١٩٩)، وغيرها.