للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وجد في نفسه نفرةً عنها؛ لطول نشوئه على الاستقباح؛ فإنه أُلقِيَ إليه منذ الصِّبا على سبيل التَّأديب (١) والإرشاد أنَّ الكذبَ قبيحٌ لا ينبغي أن يُقْدِم عليه أحد، ولا ينبَّه على حُسْنِه في بعض الأحوال، خيفةً من أن لا تَسْتَحْكِمَ نُفْرَتُه عن الكذب، فيُقْدِم عليه، وهو قبيحٌ في أكثر الأحوال، والسَّماعُ في الصِّغَر كالنقش في الحجر، فينغرسُ في النَّفس، ويجدُ التَّصديقَ به مطلقًا (٢)، وهو صدقٌ لكن لا على الإطلاق، بل في أكثر الأحوال، اعتقَده مطلقًا (٣).

الغلطة الثَّالثة: سببها سبقُ الوهم إلى العكس؛ فإنَّ من رأى شيئًا (٤) مقرونًا بشيءٍ يَظُنُّ أنَّ الشيء لا محالةَ مقرونٌ به مطلقًا، ولا يدري أنَّ الأخصَّ أبدًا مقرونٌ بالأعمِّ، والأعمَّ لا يَلْزَمُ أن يكون مقرونًا بالأخصِّ.

ومثاله: نُفْرةُ نفس الذي نهشَته الحيةُ عن الحَبل المرقَّش اللون، لأنه وَجَدَ الأذى مقرونًا بهذه الصُّورة، فتوهَّمَ أنَّ هذه الصُّورةَ مقرونةٌ بالأذى.

وكذلك يَنْفِرُ عن العَسَل إذا شبَّهه بالعَذِرَة؛ لأنه وَجَد الاستقذارَ مقرونًا بالرَّطب الأصفر، فتوهَّم أنَّ الرَّطبَ الأصفر يقترنُ به الاستقذار، وقد يَغْلِبُ عليه الوهمُ حتى يتعذَّر الأكل، وإن كان حُكم العقل يكذِّبُ الوهمَ، ولكن خُلِقَت قُوى النَّفس مطيعةً للأوهام وإن كانت كاذبةً، حتى إنَّ الطَّبعَ ينفِرُ عن


(١) في الأصول: «التأدب». والمثبت من «المستصفى».
(٢) «المستصفى»: «ويحنُّ إلى التصديق به مطلقا».
(٣) «المستصفى»: «بل في أكثر الأحوال. وإذا لم يكن على ذكره إلا أكثر الأحوال، فهو بالإضافة إليه كل الأحوال، فلذلك يعتقده مطلقا».
(٤) في الأصول: «من ترك شيئا». والمثبت من «المستصفى».