للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الحُجَج والبراهين، وأمرٌ لرسوله بمجادلة المخالفين بالتي هي أحسن، وهل تكونُ المجادلةُ إلا بالاحتجاج وإفساد حُجَج الخصم؟!

وكذلك أمَر المسلمينَ بمجادلة أهل الكتابِ بالتي هي أحسن، وقد ناظر النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جميعَ طوائف الكفر أتمَّ مُناظرة، وأقام عليهم ما أفحَم به (١) من الحُجَج، حتى عَدَل بعضهم إلى محاربته بعد أن عجَز عن ردِّ قوله وكَسْر حجَّته، واختار بعضُهم مسالمَته ومتاركَته، وبعضُهم بذَل الجزيةَ عن يدٍ وهو صاغر، كلُّ ذلك بعد إقامة الحُجَج عليهم، وأخْذِها بكَظَمِهم (٢)، وأسْرِها لنفوسهم، وما استجاب له من استجاب إلا بعد أن وضحَت له الحجَّة، ولم يجد إلى ردِّها سبيلًا، وما خالفه أعداؤه إلا عنادًا منهم وميلًا إلى المكابرة، بعد اعترافهم بصحَّة حُجَجه، وأنها لا تُدْفَع؛ فما قام الدِّينُ إلا على ساق الحجَّة (٣).

فقوله: {لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ} أي: لا خصومة؛ فإنَّ الرَّبَّ واحد، فلا وجه للخصومة فيه، ودينُه واحد، وقد قامت الحجَّةُ وتحقَّق البرهان، فلم يَبْق للاحتجاج والمخاصَمة فائدة، فإنَّ فائدة الاحتجاج ظهورُ الحقِّ ليتَّبع، فإذا ظهر وعانده المخالفُ وترَكه جحودًا وعنادًا لم يَبْق للاحتجاج فائدة، فلا حجَّة بيننا وبينكم أيها الكفَّار، فقد وضحَ الحقُّ واستبان، ولم يَبْق إلا الإقرارُ به أو العناد، والله يجمعُ بيننا يوم القيامة فيقضي للمُحِقِّ على المُبْطِل، وإليه المصير.


(١) كذا في الأصول. وفي (ط): «ما أفحمهم به».
(٢) الكَظَم: الحَلق، أو مخرج النَّفَس منه. «اللسان» (كظم).
(٣) (ت): «إلا ببيان الحجة».