للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قالوا: فعِلمُه من العقل بحُسن الحسَن وقُبح القبيح، ثمَّ عِلمُه بأنَّ ما أمرت به الرسلُ هو الحَسن، وما نهت عنه هو القبيح= طريقٌ إلى تصديق الرسل، وأنهم جاؤوا بالحقِّ من عند الله.

ولهذا قال بعض الأعراب، وقد سئل: بماذا عرفتَ أن محمدًا رسولُ الله؟ فقال: ما أمَر بشيءٍ فقال العقل: ليته نهى عنه، ولا نهى عن شيءٍ فقال العقل: ليته أمرَ به (١).

أفلا ترى هذا الأعرابيَّ كيف جعلَ مطابقةَ الحُسْن والقُبح ــ الذي ركَّب الله في العقول إدراكَه ــ لِمَا جاء به الرسولُ شاهدًا على صحة رسالته وعَلَمًا عليها، ولم يقل: إنَّ ذلك يفتحُ (٢) طريقَ الاستغناء عن النبوَّة بحاكم العقل؟!

قالوا: وأيضًا؛ فهذا إنما يلزمُ أن لو قيل بأنَّ ما جاءت به الرسلُ ثابتٌ في العقل إدراكُه مفصَّلًا قبل البعثة، فحينئذٍ يقال: هذا يفتح بابَ الاستغناء عن الرسالة.

ومعلومٌ أن إثباتَ الحُسْن والقُبح العقليَّين لا يستلزم هذا، ولا يدلُّ عليه، بل غاية العقل أن يدركَ بالإجمال حُسْنَ ما أتى الشَّرعُ بتفصيله أو قُبحَه، فيدركُه العقلُ جملةً، ويأتي الشَّرعُ بتفصيله.

وهذا كما أنَّ العقلَ يُدْرِكُ حُسْنَ العدل، وأمَّا كونُ هذا الفعل المعيَّن عدلًا أو ظلمًا فهذا مما يَعْجَزُ العقلُ عن إدراكه في كلِّ فعلٍ وعَقْد (٣).


(١) انظر ما تقدم (ص: ٨٧٤).
(٢) (ق): «يقبح». وهو تحريف.
(٣) يعني: اعتقاد.