للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

* فقال آخر: وهذا يتَّضحُ بمثال، وليكن المثالُ أنَّ مَلِكًا في زمانك وبلادك، واسعَ المُلك، عظيمَ الشَّأن، بعيدَ الصِّيت، سابغَ الهيبة (١)، معروفًا بالحكمة، مشهورًا بالحزم، يضعُ الخيرَ في مواضعه، ويوقِعُ الشرَّ في مواقعه، عنده جزاءُ كلِّ سيئةٍ وثوابُ كلِّ حسنة، قد رتَّب لبريده أصلحَ الأولياء له، وكذلك نَصَبَ لجباية أمواله أقوَمَ الناس بها، وكذلك ولَّى عمارةَ أرضه أنهَض الناس بها، وشرَّفَ آخر بكتابته، وآخر بوزارته، وآخر بنيابته.

فإذا نظرتَ إلى مُلكه وجدتَه مؤزَّرًا (٢) بسَداد الرأي ومحمود التدبير، وأولياؤه حواليه، وحاشيتُه بين يديه، وكلٌّ يَخِفُّ إلى ما هو مَنُوطٌ به، ويستقصي طاقتَه ويبذلُ فيه (٣)، والملكُ يأمرُ وينهى، ويُصْدِرُ ويُورِد، ويثيبُ ويعاقِب.

وقد عَلِمَ صغيرُ أوليائه وكبيرُهم، ووضيعُ رعاياه وشريفُهم، ونَبِيهُ الناس وخاملُهم: أنَّ الأمرَ الذي تعلَّق بكذا وكذا (٤) صدَرَ من الملك إلى كاتبه؛ لأنه من جنس الكتابة وعلائقها وما يدخلُ في شرائطها ووثائقها، والأمرَ الآخر صدَرَ إلى صاحب بريده؛ لأنه من أحكام البريد وفُنونه، والأمرَ الآخر أُلقِي إلى صاحب المعونة؛ لأنه من جنس ما هو مرتَّبٌ له منصوبٌ من أجله، والحديثَ الآخر صَدَرَ إلى القاضي؛ لأنه من باب الدِّين والحُكم


(١) «المقابسات»: «شائع الهيبة». (ز، س): «شائع الذكر».
(٢) «المقابسات»: «موزونا».
(٣) «المقابسات»: «ويستقصي طاقته فيه ويبذل وسعه دونه».
(٤) «المقابسات»: «الرأي الذي تعلق بأمر كذا». (ز، س): «الرأي الذي يطلق بأمره كذا وكذا».