والذنبُ محفوفٌ بجهلين: جهلٍ بحقيقة الأسباب الصَّارفة عنه، وجهلٍ بحقيقة المفسدة المترتِّبة عليه. وكلُّ واحدٍ من الجهلين تحته جهالاتٌ كثيرة. فما عُصِيَ اللهُ إلا بالجهل، وما أُطِيعَ إلا بالعلم.
فهذا بعضُ ما احتجَّت به هذه الطائفة.
* وقالت الطائفة الأخرى: العلمُ لا يستلزمُ الهداية، وكثيرًا ما يكونُ الضلالُ عن عمدٍ وعلمٍ لا يشُكُّ صاحبُه فيه، بل يُؤثِرُ الضلالَ والكفرَ وهو عالمٌ بقبحه ومفسدته.
قالوا: وهذا شيخُ الضلال، وداعي الكفر، وإمامُ الفجرة، إبليسُ عدوُّ الله، قد علمَ أمرَ الله له بالسجود لآدم ولم يشكَّ فيه، فخالفه وعاندَ الأمرَ وباء بلعنة الله وعذابه الدائم، مع علمه بذلك ومعرفته به، وأقسمَ له بعزَّته أنه يغوي خلقَه أجمعين إلا عبادَه منهم المخلصين؛ فكان غير شاكٍّ في الله وفي وحدانيَّته، وفي البعث الآخر، وفي الجنة والنار، ومع ذلك اختارَ الخلودَ في النار واحتمالَ لعنة الله وغضبه وطرده من سمائه وجنَّته عن علمٍ بذلك ومعرفةٍ لم تحصل لكثيرٍ من الناس، ولهذا قال:{رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ}[الحجر: ٣٦]، وهذا اعترافٌ منه بالبعث وإقرارٌ به، وقد عَلِمَ قَسَمَ ربِّه ليملأنَّ جهنَّم منه ومن أتباعه؛ فكان كفرُه كفرَ عنادٍ محضٍ لا كفرَ جهل.
وقال الله تعالى إخبارًا عن قوم صالح (١): {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى}[فصلت: ١٧]، يعني: بيَّنَّا لهم وعرَّفناهم، فعرفوا الحقَّ وتيقَّنوه، وآثروا العمى عليه. أفكان كفرُ هؤلاء عن جهل؟!