للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

نهايةَ ما ينالُه أمثالُه منها، فكم بين حاله في أول كونه نطفةً وبين حاله والربُّ يُسَلِّمُ عليه في داره، وينظرُ إلى وجهه بكرةً وعشيًّا؟!

والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في أول أمره لمَّا جاءه الملَك فقال له: اقرأ، فقال: «ما أنا بقاراء» (١)، وفي آخر أمره يقولُ الله له (٢): {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي} [المائدة: ٣]، ويقولُ له خاصَّة: {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء: ١١٣].

ويحكى أنَّ جماعةً من النصارى تحدَّثوا بينهم، فقال قائلٌ منهم: ما أقلَّ عقولَ المسلمين! يزعمونَ أنَّ نبيَّهم كان راعي الغنم، فكيف يصلُح راعي الغنم للنبوَّة؟! فقال له آخرُ من بينهم: أمَّا هم فوالله أعقلُ منَّا؛ فإنَّ الله بحكمته يسترعي النبيَّ الحيوانَ البهيم، فإذا أحسنَ رعايتَه والقيامَ عليه نقله منه إلى رعاية الحيوان الناطق؛ حكمةً من الله وتدريجًا لعبده (٣)، ولكن نحن جئنا إلى مولودٍ خرج من امرأة، يأكلُ ويشربُ ويبولُ ويبكي، فقلنا: هذا إلهنا الذي خلقَ السموات والأرض! فأمسكَ القومُ عنه.

فكيف يَحْسُنُ بذي همَّةٍ قد أزاحَ اللهُ عنه عِلَلَه، وعرَّفَه السعادةَ والشقاوة، أن يرضى بأن يكون حيوانًا وقد أمكنه أن يصير إنسانًا، وبأن يكون إنسانًا وقد أمكنه أن يصير مَلَكًا (٤) في مقعد صدقٍ عند مليكٍ مقتدر، فتقومُ


(١) أخرجه البخاري (٣)، ومسلم (١٦٠) من حديث عائشة.
(٢) (ق): «وفي آخره أمره بقول الله له». وهو تحريف.
(٣) انظر: «فتح الباري» (٤/ ٤٤١)، و «الرد على الإخنائي» (٧٢).
(٤) وذلك أن أهل الجنة لا تقع منهم معصية، فأشبهوا الملائكة من هذا الوجه.