للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وقيل لزاهد: ما الذي زهَّدك في الدُّنيا؟ فقال: «خِسَّةُ (١) شركائها، وقلَّةُ وفائها، وكثرةُ جفائها».

وقيل لآخر في ذلك؛ فقال: «ما مددتُ يدي إلى شيءٍ منها إلا وجدتُ غيري قد سبقني إليه، فأتركُه له».

ومنها: أنَّ الالتذاذَ بموقعها إنما هو بقدر شدَّة الحاجة إليها، والتألم بمطالبة النفس لتناولها، وكلَّما كانت شهوةُ الظَّفر بالشيء أقوى كانت اللذَّةُ الحاصلةُ بوجوده أكمل، فما لم تحصُل تلك الشهوةُ لم تحصُل تلك اللذَّة؛ فمقدارُ اللذَّة الحاصلة في الحال مساوٍ لمقدار الحاجة والألم والمضرَّة في الماضي؛ وحينئذٍ تتقابلُ اللذَّةُ الحاصلةُ والألمُ المتقدِّم، فيتساقطان، فتصيرُ اللذَّةُ كأنها لم توجد، ويصيرُ بمنزلة من شَقَّ بطنَ رجلٍ ثمَّ خاطَه وداواهُ بالمَراهم، أو بمنزلة من ضربه عشرةَ أسواطٍ وأعطاه عشرةَ دراهم! ولا تخرجُ لذَّاتُ الدنيا غالبًا عن ذلك.

ومثلُ هذا لا يُعَدُّ لذَّةً ولا سعادةً ولا كمالًا، بل هو بمنزلة قضاء الحاجة من البول والغائط؛ فإنَّ الإنسان يتضرَّرُ بثِقْله، فإذا قضى حاجتَه استراح منه، فأمَّا أن يعدَّ ذلك سعادةً وبهجةً ولذَّةً مطلوبةً فلا.

ومنها: أنَّ هاتين اللذَّتين اللَّتين هما آثرُ اللذَّات عند الناس لا سبيل (٢) إلى نيلهما إلا بما يقترنُ بهما قبلهما وبعدهما من مباشرة القاذورات والتألُّم الحاصل عقيبهما.


(١) (ت): «خشية». وانظر: «جامع العلوم والحكم» (٥٥٧).
(٢) (ت، د، ق): «ولا سبيل». خطأ.