للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من حاجَّ به، بل من خاصمَ به فَلَجَتْ حجَّتُه (١)، وكسرَ شبهةَ خصمه، وبه فُتِحَت القلوب، واستُجِيبَ لله ورسوله، ولكنَّ أهل هذا العلم لا تكادُ الأعصارُ تَسْمَحُ منهم إلا بالواحد بعد الواحد.

فدلالةُ القرآن سمعيةٌ عقلية، قطعيةٌ يقينية، لا تعترضُها الشبهات، ولا تتداولها الاحتمالات، ولا ينصرفُ القلبُ عنها بعد فهمها أبدًا.

وقال بعضُ المتكلِّمين: أفنيتُ عمري في الكلام أطلبُ الدليل، وإذا أنا لا أزدادُ إلا بعدًا عن الدليل، فرجعتُ إلى القرآن أتدبَّره وأتفكَّر فيه، وإذا أنا بالدليل حقًّا معي وأنا لا أشعرُ به، فقلت: والله ما مثلي إلا كما قال القائل:

ومن العجائب والعجائبُ جمَّةٌ ... قُرْبُ الحبيب وما إليه وصولُ

كالعِيسِ في البيداءِ يقتلها الظَّما ... والماءُ فوق ظهورها محمولُ (٢)

قال: فلمَّا رجعتُ إلى القرآن إذا هو الحكمُ والدليل، ورأيتُ فيه من أدلَّة الله وحججه وبراهينه وبيِّناته ما لو جُمِعَ كلُّ حقٍّ قاله المتكلِّمون في كتبهم لكانت سورةٌ من سور القرآن وافيةً بمضمونه، مع حُسْن البيان، وفصاحة اللفظ، وتطبيق المَفْصِل (٣)، وحُسْن الاحتراز، والتنبيه على مواقع الشُّبه، والإرشاد إلى جوابها، وإذا هو كما قيل ــ بل فوق ما قيل ــ:


(١) انتصَرَت وغَلَبَت. والفَلْجُ: الظَّفر والفوز. «اللسان» (فلج).
(٢) البيت الثاني لأبي العلاء في «سقط الزند» (٢/ ٨٧٨، ٨٨٠) باختلافٍ يسير. وضمَّنه القاضي الفاضل (ت: ٥٩٦). انظر: «الروضتين» (٢/ ٣٥٧). ودون نسبة في مصادر كثيرة.
(٣) أي: إصابة الحجَّة. وأصلُه من: طبَّق السيفُ، إذا أصاب المَفْصِل، فأبان العضو. «الصحاح» (طبق).