للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فحَيَّ على جنَّاتِ عَدْنٍ فإنها ... منازلُك الأولى وفيها المُخَيَّمُ

ولكنَّنا سَبْيُ العدوِّ فهل تُرى ... نَعُودُ إلى أوطاننا ونُسَلَّمُ

وكلَّما أراد منه العدوُّ نسيانَ وطنه، وضَرْبَ الذِّكر عنه صفحًا، وإيلافَه وطنًا غيره، أبت ذلك روحُه وقلبُه، كما قيل:

يرادُ من القلب نسيانُكم ... وتأبى الطِّباعُ على الناقلِ (١)

ولهذا كان المؤمنُ غريبًا في هذه الدار، أين حلَّ منها فهو في دار غُربة، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: «كن في الدنيا كأنك غريبٌ أو عابرُ سبيل» (٢)، ولكنها غُربةٌ تنقضي ويصيرُ إلى وطنه ومنزله، وأما الغُربةُ التي لا يُرجى انقطاعُها فهي غُربةٌ في دار الهوان، ومفارقةُ وطنه الذي كان قد هيِّاء له وأُعِدَّ له وأُمِرَ بالتجهُّز إليه والقدوم عليه، فأبى إلا اغترابَه عنه ومفارقتَه له، فتلك غربةٌ لا يُرجى إيابُها ولا يُجْبَرُ مصابُها.

ولا تبادِر إلى إنكار كون البدن في الدنيا والروح في الملإ الأعلى؛ فللرُّوح شأنٌ وللبدن شأن، والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - كان بين أظهُر أصحابه وهو عند ربِّه يطعمُه ويسقيه (٣)، فبدنُه بينهم وروحُه وقلبه عند ربِّه.

وقال أبو الدرداء: «إذا نام العبدُ عُرِجَ بروحه إلى تحت العرش، فإن كان


(١) البيت للمتنبي، في ديوانه (٢٥٩). والرواية الصحيحة: ويأبى، بالياء. انظر كلام ابن القطاع بحاشية الديوان (تحقيق عبد الوهاب عزام).
(٢) أخرجه البخاري (٦٤١٦) من حديث ابن عمر.
(٣) انظر ما مضى (ص: ٩٧).