للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حكمتَه فيما أحكَمه (١)، وشهدت فِطَنُهم وعقولهم أنَّ مَصدرَ ذلك حكمةٌ بالغةٌ وإحسانٌ تامٌّ ومصلحةٌ أُريدت بالعباد في معاشهم ومعادهم، وهم في ذلك درجاتٌ لا يحصيها إلا الله.

ومنهم من يكونُ حظُّه من مشاهدة حكمة الخلق أوفرَ من حظِّه من حكمة الأمر، وهم أكثرُ الأطبَّاء والطبائعيِّين الذين صرفوا أفكارَهم إلى استخراج منافع النَّبات والحيوان وقُوَاها وما تصلحُ له مفردةً ومركَّبة، وليس لهم نصيبٌ في حكمة الأمر إلا كما للفقهاء من حكمة الخَلْق، بل أقلُّ من ذلك.

ومنهم من فُتِحَ عليه بمشاهدة حكمة الخلق والأمر (٢) بحسب استعداده وقوَّته، فرأى الحكمةَ الباهرةَ التي بَهَرَت العقولَ في هذا وهذا، فإذا نظر إلى خَلْقه وما فيه من الحِكَم ازداد إيمانًا ومعرفةً وتصديقًا بما جاءت به الرُّسل، وإذا نظر إلى أمره وما تضمَّنه من الحِكَم الباهرة ازداد إيمانًا ويقينًا وتسليمًا.

لا كمن حُجِبَ بالصَّنعة عن الصَّانع، وبالكواكب عن مُكَوْكِبها؛ فعَمِيَ بصرُه، وغَلُظ عن الله حجابُه، ولو أعطى علمَه حقَّه لكان من أقوى النَّاس إيمانًا؛ لأنه اطَّلع من حكمة الله وباهر آياته (٣) وعجائب صُنْعِه الدَّالَّة عليه وعلى علمه وقدرته وحكمته على ما خَفِيَ عن غيره. ولكنَّ من حكمة الله أيضًا أنْ سَلَبَ كثيرًا من عقول هؤلاء (٤) خاصَّتَها (٥)، وحَجَبَها عن معرفته،


(١) في الأصول: «أحله». والمثبت أشبه.
(٢) (ح، ن): «بمشاهدة الخلق والأمر».
(٣) (ن، ح): «وبراهينه».
(٤) (ت): «عقول كثير من هؤلاء».
(٥) (ح، ن): «خاصيتها». والخاصيَّة نسبة إلى الخاصَّة.