للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

فحين تُولَدُ قد تَلمَّظتَ وحرَّكتَ شفتيك للرَّضاع، فتجدُ الثَّديَ المعلَّق كالإداوة قد تدلى إليك، وأقبل بدَرِّه عليك، ثمَّ جعل في رأسه تلك الحَلَمة التي هي بمقدار صِغَر فمك فلا يضيقُ عنها ولا يتعب (١) بالتقامها، ثمَّ ثقبَ لك في رأسها ثقبًا لطيفًا (٢) بحسب احتمالك، ولم يوسِّعه فتختنقَ باللبن، ولم يضيِّقه فتمصَّه بكُلفة، بل جعله بقَدْرٍ اقتضته حكمتُه ومصلحتُك.

فمن عطفَ عليك قلبَ الأمِّ ووضعَ فيه الحنانَ العجيبَ والرحمةَ الباهرة، حتى تكون في أهنأ ما يكونُ من شأنها وراحتها ومَقِيلها، فإذا أحسَّت منك بأدنى صوتٍ أو بكاءٍ قامت إليك وآثرتْكَ على نفسها، على مدى الأنفاس، منقادةً إليك بغير قائدٍ ولا سائقٍ إلا قائدَ الرحمة وسائقَ الحنان، تودُّ لو أنَّ كلَّ ما يؤلمك بجسمها، وأنه لم يطرُقكَ منه شيء، وأنَّ حياتها تزادُ في حياتك، فمن الذي وضع ذلك في قلبها؟!

حتى إذا قَوِيَ بدنُك، واتسعت أمعاؤك، وخشُنت عظامُك، واحتجتَ إلى غذاءٍ أصلبَ من غذائك؛ ليشتدَّ به عظمُك، ويقوى عليه لحمُك= وضعَ في فِيك آلةَ القطع والطَّحن، فنَصَبَ لك أسنانًا تقطعُ بها الطَّعام وطواحينَ تطحنُه بها.

فمن الذي حبسها عنك أيامَ رضاعك رحمةً بأمِّك ولطفًا بها، ثمَّ أعطاكها أيام أكلِك رحمةً بك وإحسانًا إليك ولطفًا بك؟! فلو أنك خرجتَ من البطن ذا سِنٍّ ونابٍ وناجذٍ وضِرس، كيف كان حالُ أمِّك بك؟! ولو أنك مُنِعتَها وقتَ الحاجة إليها كيف كان حالك بهذه الأطعمة التي لا تُسِيغُها إلا


(١) (ح): «يضعف».
(٢) (ح، ن): «ثم نقب ... نقبا لطيفا».