للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثمَّ لو وُلِدتَ عاقلًا فَهِمًا كحالك في كِبَرك لتنغَّصت عليك حياتُك أعظمَ تنغيص، وتنكَّدت أعظمَ تنكيد؛ لأنك ترى نفسك محمولًا رضيعًا، معصَّبًا بالخِرَق، مربَّطًا بالقُمُط (١)، مسجونًا (٢) في المهد، عاجزًا ضعيفًا عمَّا يحاولُه الكبير، فكيف كان يكون عيشُك مع تعقُّلك التَّامِّ في هذه الحالة؟!

ثمَّ لم يكن يوجدُ لك من الحلاوة واللَّطافة والوَقْع في القلب والرحمة بك ما يوجدُ للمولود الطفل، بل تكونُ أنكدَ خلق الله وأثقلَهم وأعنتَهم وأكثرهم فضولًا.

وكان دخولُك هذا العالم وأنت غبيٌّ (٣) لا تعقلُ شيئًا ولا تعلمُ ما فيه أهلُه محض الحكمة والرحمة بك والتَّدبير، فتلقى الأشياءَ بذهنٍ ضعيفٍ ومعرفةٍ ناقصة، ثمَّ لا يزالُ يتزايدُ فيك العقلُ والمعرفةُ شيئًا فشيئًا حتى تَأْلفَ الأشياءَ وتَمْرُنَ عليها، وتخرجَ من التأمُّل لها والحيرة فيها، وتستقبلها بحُسْن التصرُّف فيها والتَّدبير لها والإتقان لها.

وفي ذلك وجوهٌ أُخرُ من الحكمة غيرُ ما ذكرناه (٤).

فمَن هذا الذي هو قيِّمٌ عليك بالمرصاد، يرصدُك (٥) حتى يُوافيك بكلِّ شيءٍ من المنافع والآراب والآلات في وقت حاجتك، لا يقدِّمها عن وقتها


(١) جمعُ «قِماط»، وهي خرقةٌ عريضةٌ يُلَفُّ بها المولود. «اللسان» (قمط). أو هو الحبل الذي يُشَدُّ به الصبيُّ في المهد.
(٢) (ر، ض): «مسجى». وهي قراءة جيدة.
(٣) «غبي» ليست في (ت).
(٤) ذُكِرت في «دلائل الاعتبار» (٤٥).
(٥) (ت): «فمن رصدك».