للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

ثمَّ إنه سبحانه ركَّب فيه من القُوى والشَّهوة (١) والإرادة ما يوجبُ حركتَه الدَّائمة، وسعيَه في طلب ما يُصْلِحُه ودفع ما يضرُّه؛ بنفسه تارةً وبمن يعينُه تارة، فأحوجَ النَّوعَ بعضه إلى بعض، فحدث من ذلك الاختلاطُ بينهم، وبغيُ بعضهم على بعض، فيحدُث من ذلك من الآلام والشُّرور بنحو ما يحدُث من امتزاج أخلاطه واختلاطها، وبغي بعضها على بعض، والآلامُ لا تتخلَّفُ عن هذا الاختلاط والامتزاج أبدًا إلا في دار البقاء والنَّعيم المقيم، لا في دار الابتلاء (٢) والامتحان.

فمن ظنَّ أنَّ الحكمة في أن يجعل خصائصَ تلك الدَّار في هذه فقد ظنَّ باطلًا، بل الحكمةُ التَّامَّةُ البالغةُ اقتضت أن تكون هذه الدَّارُ ممزوجةً عافيتُها ببلائها، وراحتُها بعنائها، ولذَّتها بآلامها، وصحَّتُها بسقَمها، وفرحُها بغمِّها، فهي دارُ ابتلاءٍ تُدْفَعُ بعضُ آفاتها ببعض، كما قال القائل:

أصبحتُ في دار بَليَّاتِ ... أدْفَعُ آفاتٍ بآفاتِ (٣)

ولقد صدق؛ فإنك إذا فكَّرتَ في الأكل والشُّرب واللباس والجماع والراحة وسائر ما يُستلذُّ به؛ رأيته يدفعُ بها ما قابله (٤) من الآلام والبليَّات، أفلا تراك تدفعُ بالأكل ألم الجوع، وبالشُّرب ألم العطش، وباللباس ألم الحرِّ والبرد، وكذا سائرها.


(١) «والشهوة» ليست في (ح، ن).
(٢) (ن): «البلاء».
(٣) تقدم تخريج البيت (ص: ٣٧٦).
(٤) (ن): «يقابله». (ت): «قبله».