إنَّ الرعيل الأول من المتقدمين قد بلغوا في الحفظ والضبط والإتقان أقصى غاياته، وحفظوا الطرق ونقبوا أشد التنقيب؛ حتى بذلوا في خدمة السنَّة كل غال ونفيس. ومادامت السنة في صدورهم، ولعصر الرواية انتماؤهم، ولها ثبتت ملاحظتهم ومعايشتهم، فقد تأكد وعلى مرّ القرون - وبالنظر والموازنة والمقارنة - أنَّ أحكامهم في هذا الشأن أعلى الأحكام وأصحها؛ لشدة قربهم ومعاصرتهم للرواية، وقوة قرائحهم، وحفظهم مئات الألوف من الأسانيد، حتى أصبح السند الذي يشذ عن أحدهم عزيزاً نادراً.
قال الذهبي:«وجزمت بأنَّ المتأخرين على إياس من أنْ يلحقوا المتقدمين في الحفظ والمعرفة»(١).
ومع هذا الاتصاف بالحفظ التام والنظر الثاقب، امتازوا بالورع والديانة والمذاكرة بينهم في خدمة هذا الدين، عن طريق تنقية السنة من تحريف الغالين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين.
وينبغي بادئ بدءٍ معرفة من هو المتقدم ومن هو المتأخر، فقد اختلف الباحثون في تحديد الفاصل بين المتقدم والمتأخر، لكنّ المشهور بين أهل العلم أنَّ المتقدمين من كانوا قبل سنة ثلاثمئة: «وهذا الرأي وجيه وله حظ من القوة، ففي تلك القرون عاش الجهابذة الذين كان لهم قصب السبق في حفظ السنة والذب عنها، وبيان صحيحها من معلولها، وكان لهم المؤلفات