للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

أما قرائن الترجيح فمن خلال الاستقراء تبين أنها تنقسم إلى قسمين:

الأول: قرائن أساسية: وهذه القرائن تكون في غالب الأحوال مرجعاً للتحاكم، إذا اختلفت الرواة على الراوي، وهي:

أ - الحفظ والإتقان: خلق الله الناس، وجبل كلاً منهم على جبلة خاصة، فمنهم من كانت سجيته الحفظ، فلا يكاد يقرأ أو يسمع شيئاً إلا حفظه قلبه ووعاه، وفي ذلك يقول الإمام أحمد: «كان قتادة أحفظ أهل البصرة، لا يسمع شيئاً إلا حفظه، وقرئ عليه صحيفة جابر مرة واحدة فحفظها … » (١)، وهذه الطبقة تضم أيضاً إسحاق بن راهويه وأحمد والبخاري ومسلماً وأبا داود وخلقاً كثيراً، ثم بعدهم طبقة دونهم وهم غالب رجال الصحيحين، ثم طبقة دونهم، وهكذا الناس متفاوتون في الحفظ والإتقان، وبلا شك إذا اختلف راوٍ ما من الطبقة الأولى مع راوٍ من الطبقة الثانية، فإنَّ الراجح في هذا الاختلاف هو للطبقة الأولى، لظهوره على صاحبه في الحفظ، قال ابن رجب: «وأيوب يُقدَّم على يعلى بن حكيم في الحفظ والضبط» (٢) وكتب العلل محشوّة بالترجيح بهذه القرينة، فنجد الناقد يقول: فلان أحفظ أو فلان أوثق، لذلك كانت هذه القرينة مصدراً أساسياً للترجيح بين الرواة.

ب - العدد: هذه القرينة لا تقل أهميتها عن سابقتها، فنجد الناقد يقول: خالف فلان الناس، أو يقول: الناس يروونه كذا، ولأنَّ الغالب في أحاديث الأحكام الشهرة - والحمد لله - فإنَّ مقتضى الشهرة تعدد الطرق، لذلك كان الصواب دائماً بما يوافق الجماعة، ومن شواهد ترجيح النقاد بهذه القرينة قول الشافعي: «والعدد أولى بالحفظ من الواحد» (٣) ومثله قول البيهقي (٤)، وساق الخطيب بسنده إلى ابن المبارك أنَّه قال: «إجماع الناس على شيء أوثق في نفسي من سفيان، عن منصور، عن إبراهيم، عن علقمة، عن ابن مسعود» (٥)، وقال الخطيب: «ويرجح بكثرة الرواة لأحد الخبرين؛ لأنَّ الغلط عنهم والسهو أبعد، وهو إلى الأقل أقرب .. » (٦)، وقال الذهبي: «وإنْ كان الحديث رواه


(١) نقله المزي في " تهذيب الكمال " ٦/ ١٠٣ (٥٤٣٧).
(٢) " فتح الباري " ٣/ ٣٨٣.
(٣) " اختلاف الحديث ": ١٢٧
(٤) انظر: " شعب الإيمان " عقب (٤٢٠٧).
(٥) " الكفاية ": ٤٣٤.
(٦) " الكفاية " ٤٣٦.

<<  <  ج: ص:  >  >>