تراث سنة نبينا ﷺ، إذ إنَّهم حفظوا لنا السنة برمتها في صدورهم ودواوينهم.
ثم إنهم قد رسموا لمن جاء بعدهم طريقاً واضحاً بيناً سليماً، يمتاز بالدقة والنظر التام.
فعلى المتأخرين أنْ يلتزموا أقوال المتقدمين، وطريقة سردهم للأحكام، ونقدهم لطرق الحديث ومتونه، على أن لا يغفل عن جهود الآخرين من المتأخرين والمعاصرين، والله وليُّ التوفيق.
وإنَّ مما يؤكد لنا صحة منهج المتقدمين، أنهم جمعوا الأحاديث و سبروا الطرق، وحكموا على المتون والرجال بعد معاودة النظر والمذاكرة والبحث والموازنة والمقارنة والنظر الثاقب بعين الإنصاف. ثم بعد كل هذا الجهد، عرضوا هذه الأحكام وتلكم النتائج على ما حفظوه من ثروة هائلة من تراث هذه الأمة. وهذه الثروة تتمثل بحفظ الجم الغفير من المتون والأسانيد المتكررة التي بلغت مئات ألوف من الأسانيد وعشرات الألوف من المتون، حتى انتهوا إلى أحكامهم الصحيحة التي توصلوا إليها بعد إفراغ جهدهم، فكانت أحكامهم صادرة نتيجة دراسات وأبحاث قلَّ نظيرها مع دقة الميزان النقدي الذي تمتعوا به؛ لكثرة حفظهم للأحاديث، واعتيادهم عليها، واختلاطها بدمهم ولحمهم، بل إنَّ ما يحكمون عليهِ من الأحاديث لم يكونوا يعرضونه على ما حفظوه من أسانيد فحسب، بل يعرضونه كذلك على ما رزقهم الله به من معرفة واسعة في الفقه، قال علي بن المديني:«التفقه في معاني الحديث نصف العلم، ومعرفة الرجال نصف العلم»(١)، فهم لم يكونوا محدّثين فقط بل كانوا فقهاء محدّثين، والفقه عندهم ضروري؛ إذ كيف يحكمون على الحديث، وعدم المخالفة القادحة شرط، والمخالفة ليست قاصرة على مخالفة الحديث لحديث آخر، بل هي أوسع، فمن ذَلِكَ المخالفة لآية أو إجماعٍ أو قاعدةٍ متفق عليها، وما أشبه ذَلِكَ من المخالفات.
(١) أخرجه: الرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " (٢٢٢)، ومن طريقه الذهبي في "سير أعلام النبلاء" ١١/ ٤٧ - ٤٨.