للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هكذا أدرك الْمُحَدِّثُوْنَ - منذ الصدر الأول - ما للإسناد من أهمية بالغة في الصناعة الحديثية؛ إِذْ هُوَ دعامتها الأساسية ومرتكزها في أبحاث العدالة والضبط.

وكذلك أدرك الْمُحَدِّثُوْنَ أنَّه لا يمكن نقد الْمَتْن نقداً صحيحاً إلا من طريق البحث في الإسناد، ومعرفة حلقات الإسناد والرواة النقلة، فلا صحة لمتن إلا بثبوت إسناده.

وأعظم مثال عَلَى اهتمام المسلمين بالإسناد هُوَ ما ورّثوه لنا من التراث الضخم الكبير الهائل، وما سخّروا للإسناد من ثروة علمية في كتب الرجال.

والبحث في الإسناد مهم جداً في علم الْحَدِيْث، من أجل التوصل إلى مَعْرِفَة الْحَدِيْث الصَّحِيْح من غَيْر الصَّحِيْح، إِذْ إنَّه كلما تزداد الحاجة يشتد نظام المراقبة، فعندما انتشر الْحَدِيْث بَعْدَ وفاة النَّبِيّ اشتد الاهتمام بنظام الإسناد، وعندما بدأ السهو والنسيان يظهران كثر الالتجاء إلى مقارنة الروايات، حَتَّى أصبح هَذَا المنهج مألوفاً معروفاً عِنْدَ الْمُحَدِّثِيْنَ؛ إِذْ إنَّه لا يمكن الوصول إلى النص السليم القويم إلا من طريق البحث في الإسناد، والنظر والموازنة والمقارنة فِيْمَا بَيْنَ الروايات والطرق. من هنا ندرك سر اهتمام الْمُحَدِّثِيْنَ بِهِ، إذ جالوا في الآفاق ينقّرون أَوْ يبحثون في إسنادٍ، أَوْ يقعون عَلَى علة أَوْ متابعة أَوْ مخالفة، وكتاب " الرحلة في طلب الْحَدِيْث " (١) للخطيب البغدادي خير شاهد عَلَى ذَلِكَ.

وتداول الإسناد وانتشاره معجزة من المعجزات النبوية (٢) الَّتِيْ أشار إِلَيْهَا المصطفى في قوله: «تَسْمَعُون ويُسْمَع منكم ويُسْمَع مِمَّنْ يَسْمَع منكم» (٣).


(١) هُوَ كتاب فريد في بابه، جمع فِيْهِ الْخَطِيْب نوادر من أخبار العلماء في رحلاتهم من أجل الْحَدِيْث الواحد، وما أشبه ذَلِكَ. وَقَدْ صدر الكتاب بأحاديث وآثار تدلل عَلَى ذَلِكَ وترغب فِيْهِ، وَقَدْ طبع الكتاب في بيروت بطبعته الأولى عام ١٩٧٥ في دار الكتب العلمية بتحقيق: د. نور الدين عتر.
(٢) انظر: " بغية الملتمس ": ٢٣.
(٣) أخرجه: أحمد ١/ ٣٥١، وأبو داود (٣٦٥٩)، وابن حبان (٩٢)، والرامهرمزي في "المحدّث الفاصل" (٩٢)، والحاكم ١/ ٩٥، وفي " مَعْرِفَة علوم الْحَدِيْث "، له: ٢٧ ط. العلمية و (٤٩) ط. ابن حزم، والبيهقي ١٠/ ٢٥٠ وفي " الدلائل "، له ٦/ ٥٣٩، والخطيب في "شرف أصحاب الْحَدِيْث" (٧٠)، وابن عَبْد البر في " جامع بَيَان العلم " ١/ ٥٥ و ٢/ ١٥٢، والقاضي عياض في " الإلماع ":١٠ من طرق عن الأعمش، عن عَبْد الله بن عَبْد الله، عن سعيد بن جبير، عن ابن عَبَّاسٍ، بِهِ مرفوعاً. وصححه الْحَاكِم، وَلَمْ يتعقبه الذهبي، وَقَالَ العلائي في " بغية الملتمس ": ٢٤: «هَذَا حَدِيْث حسن من حَدِيْث الأعمش».
وأخرجه: البزار كما في " كشف الأستار " (١٤٦)، والرامهرمزي في " المحدّث الفاصل " (٩١)، والطبراني في " الكبير " (١٣٢١)، والحاكم في " معرفة علوم الحديث ": ٦٠ ط. العلمية و (١٠٥) ط. ابن حزم، والخطيب في "شرف أصحاب الْحَدِيْث " (٦٩) من حَدِيْث ثابت بن قيس بلفظ: «تسمعون ويُسمع منكم ويُسمع من الَّذِيْنَ يسمعون منكم ثُمَّ يأتي من بَعْدِ ذَلِكَ قوم سمان يحبون السِّمَن، يشهدون قَبْلَ أن يُسألوا».

<<  <  ج: ص:  >  >>