للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

واجباً على السالك، حتى يصير عارفاً محققاً في زعمهم وحينئذ يسقط عنه التكليف، ويتأولون على ذلك قوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)} (١) [الحجر: ٩٩] زاعمين أن اليقين هو ما يدعونه من المعرفة،


(١) قال المؤلف في درء التعارض ما نصه (٣/ ٢٧٠): "ودخل في ذلك طائفة من المتصوفة ظنوا أن غاية العبادات هو حصول المعرفة، فإذا حصلت سقطت العبادات، وقد يحتج بعضهم بقوله: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (٩٩)} ويزعمون أن اليقين هو المعرفة، وهذا خطأ بإجماع المسلمين -أهل التفسير وغيرهم- فإن المسلمين متفقون على أن وجوب العبادات -كالصلوات الخمس ونحوها- وتحريم المحرمات -كالفواحش والمظالم- لا يزال واجباً على كل أحد ما دام عقله حاضراً ولو بلغ ما بلغ. . . فالمقصود من هذا أن الصلوات الخمس لا تسقط عن أحد له عقل، سواء كان كبيراً أو صالحاً أو عالماً.
وما يظنه طوائف من جهال العباد وأتباعهم وجهال النظار وأتباعهم وجهال الإسماعيلية والنصيرية -وإن كانوا كلهم جهالاً- من سقوطها عن العارفين أو الواصلين أو أهل الحضرة أو عمن خرقت لهم العادات أو عن الأئمة الإسماعيلية أو بعض أتباعهم أو عمن عرف العلوم العقلية أو عن المتكلم الماهر في النظر أو الفيلسوف الكامل في الفلسفة فكل ذلك باطل باتفاق المسلمين، وبما علم بالاضطرار من دين الإسلام".
ولقول الحافظ ابن القيم -رحمه الله- في مدارج السالكين (١/ ١١٧) في إشارة لطيفة لعبوديتين أخريين في البرزخ ويوم القيامة: "واليقين هاهنا: الموت بإجماع أهل التفسير. . .، فلا ينفك العبد من العبودية ما دام في دار التكليف، بل عليه فى البرزخ عبودية أخرى لما يسأله الملكان: من كان يعبد؟ وما يقول في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ويلتمسان منه الجواب، وعليه عبودية أخرى يوم القيامة، يوم يدعو الله الخلق كلهم إلى السجود، يسجد المؤمنون، ويبقى الكفار والمنافقون لا يستطيعون السجود، فإذا دخلوا دار الثواب والعقاب انقطع التكليف هناك، وصارت عبودية أهل الثواب تسبيحاً مقروناً بأنفاسهم لا يجدون له تعباً ولا نصباً. . .
ومن زعم أنه يصل إلى مقام يسقط عنه فيه التعبد؛ فهو زنديق كافر بالله وبرسوله، وإنما وصل إلى مقام الكفر بالله، والانسلاخ من دينه. . . ".
وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسير القرآن العظيم (٢/ ٥٦١) عند هذه الآية: "ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم، وهذا كفر وضلال وجهل، فإن الأنبياء - عليهم السلام - كانوا هم وأصحابهم أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته وما يستحق من التعظيم، وكانوا مع هذا أعبد وأكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة. . . ".

<<  <   >  >>