ويأتي الكلام باقتضاب عن جوانب هامة أخرى في حياته -وإن كانت خاصة بشخصيته- لم يتكلم عنها قبل ذلك في هذه الترجمة.
ولا يستطيع المطالع لحياته -رحمه الله- إلا أن يجزم بعظمة دين الإسلام، الذي ما تمثله أحد من الناس في حياته، إلا جاء بما يبهر العقول والأبصار، ويكون قمة عالية في هذه الحياة، وقدوة رائعة في الواقع، فكيف بعالم من العلماء! ! .
وشيخ الإسلام حياته من مبتدئها إلى منتهاها تفسير لقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)} [الذاريات: ٥٦]، وتطبيق دائم لقوله تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (١٦٢) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (١٦٣)} [الأنعام: ١٦٢، ١٦٣].
والعبودية بمفهومها الشامل الواسع الذي لا يدع صغيرة ولا كبيرة من حياة الإنسان، ولا حركة ولا سكنة ولا ثانية إلا أدخلها فيها، هي العبودية التي عاشها مؤلفنا الكبير، ودعا إليها.
وشخص كشيخ الإسلام وقف أمام الأمة يقودها مجاهدًا بالسيف والقلم، وصمد أمام جحافل التتار، وجاهد النصارى والروافض والنصيريين، وأخرس ألسن المبتدعين، من صوفية وطرقية ومتكلمين، وعلماء لاهثين وراء الحطام والأموال، ورماه جمع هؤلاء عن قوس واحدة، لا بد أن يأوي إلى ركن شديد، وهو إيمانه بالله، ولا بد أن يكون وثيق الصلة جداً بخالقه ومولاه.
وخير من ينبئ عن ذلك تلميذه أبو حفص البزار، حيث يعطي القارئ بياناً تفصيلياً عن عادة شيخ الإسلام في قضاء ليله ونهاره، وكيف أنه قد حقق العبودية الكاملة الشاملة: "أما تعبده - رضي الله عنه -، فإنه قل أن سمع بمثله، لأنه كان قد قطع جل وقته وزمانه فيه، وكان في ليله متفرداً عن الناس كلهم، خالياً بربه عزّ وجلّ، ضارعاً مواظباً على تلاوة القرآن العظيم، مكرراً لأنواع التعبدات الليلية والنهارية، وكان إذ ذهب الليل وحضر مع الناس بدأ بصلاة الفجر يأتي بسنتها قبل إتيانه إليهم، وكان إذا أحرم بالصلاة تكاد تتخلع القلوب لهيبة إتيانه بتكبيرة الإحرام ..