للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

عَظِيمًا.

وَنَبَّهَهُ بِآثَارِ صَنْعَتِهِ، وَأَعْذَرَ إلَيْهِ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ، الْخِيرَةِ مِنْ خَلْقِهِ فَهَدَى مَنْ وَفَّقَهُ بِفَضْلِهِ، وَأَضَلَّ مَنْ

ــ

[الفواكه الدواني]

(وَأَبْرَزَهُ) أَيْ وَأَخْرَجَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ مِنْ ضِيقِ الْبَطْنِ بَعْدَ تَصْوِيرِهِ.

(إلَى رِفْقِهِ) أَيْ ارْتِفَاقِهِ بِمَا يَجِدُهُ بَعْدَ خُرُوجِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الرَّاحَةِ وَاللَّذَّةِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ وَهُوَ الْإِنْسَانُ، وَيَحْتَمِلُ أَنَّ فَاعِلَ الرِّفْقِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى وَالْمَعْنَى عَلَيْهِ وَأَبْرَزَ تَعَالَى الْإِنْسَانَ إلَى إرْفَاقِهِ تَعَالَى بِهِ بِإِخْرَاجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الضَّمِيرُ فِي رِفْقِهِ إلَى الْإِنْسَانِ وَإِلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَعَلَى الِاحْتِمَالَيْنِ الْمَصْدَرُ مُضَافٌ إلَى الْفَاعِلِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ أُمٌّ كَآدَمَ وَحَوَّاءَ - عَلَيْهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فَرِفْقُهُ بِهِ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ وَإِقْدَارُهُ عَلَى النُّطْقِ لِأَنَّهُ يَنَالُ بِهِمَا لَذَّةَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ إنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الطَّاعَةِ، فَأَنْوَاعُ رِفْقِ اللَّهِ بِالْإِنْسَانِ كَثِيرَةٌ وَلَا حَصْرَ لَهَا، فَفِيهَا زِيَادَةٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ وَهُوَ خُرُوجُهُ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بِرَأْسِهِ فِي أَغْلَبِ الْأَحْوَالِ دُونَ رِجْلَيْهِ، وَجَعَلَ حِجْرَ أُمِّهِ لَهُ وِطَاءً وَثَدْيَهَا لَهُ سِقَاءً وَلَبَنَهَا مُعْتَدِلًا بَيْنَ الْعُذُوبَةِ وَالْمُلُوحَةِ إذْ لَوْ كَانَ أَحَدُهُمَا فَقَطْ لَسَئِمَهُ، وَجَعَلَ بَارِدًا فِي الصَّيْفِ حَارًّا فِي الشِّتَاءِ.

(وَ) أَبْرَزَهُ أَيْضًا إلَى تَنَاوُلِ (مَا يَسَّرَ) أَيْ مُسَهَّلٌ (لَهُ مِنْ رِزْقِهِ) وَهُوَ مَا يَنْتَفِعُ بِهِ أَكْلًا أَوْ شُرْبًا أَوْ لُبْسًا، إذْ الرِّزْقُ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ مَا يُنْتَفَعُ بِهِ، تَكَفَّلَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى لِكُلِّ حَيَوَانٍ بِمَحْضِ فَضْلَةِ لَا عَنْ إيجَادٍ وَلَا جَوَابٍ، إذْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ سُبْحَانَهُ لِمَخْلُوقِهِ شَيْءٌ وَمَا أُوهِمَ الْوُجُوبُ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} [هود: ٦] وَنَحْوِ: {كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} [الأنعام: ٥٤] ، فَمَعَنَا بِمَحْضِ فَضْلِهِ وَبِكَوْنِ الرِّزْقِ مِنْ حَلَالٍ وَحَرَامٍ فَالْبَهَائِمُ مَرْزُوقَةٌ، وَقِيلَ الرِّزْقُ مَا مَلَكَ وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ لِاقْتِضَائِهِ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَالُ لَهُ مَرْزُوقٌ لِأَنَّهُ مَالِكٌ لِجَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْبَهَائِمَ وَكُلَّ مَنْ لَا يَمْلِكُ غَيْرُ مَرْزُوقٍ، وَلِاقْتِضَائِهِ أَنَّ الْإِنْسَانَ يَأْكُلُ رِزْقَ غَيْرِهِ وَأَنَّهُ يَمُوتُ قَبْلَ اسْتِيفَاءِ رِزْقِهِ، وَجَمِيعُ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ.

قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:

وَالرِّزْقُ عِنْدَ الْقَوْمِ مَا بِهِ انْتُفِعْ ... وَقِيلَ لَا بَلْ مَا مُلِكْ وَمَا اتُّبِعْ

فَيَرْزُقُ اللَّهُ الْحَلَالَ فَاعْلَمَا ... وَيَرْزُقُ الْمَكْرُوهَ وَالْمُحَرَّمَا

وَالْأَرْزَاقُ مَقْسُومَةٌ مَعْلُومَةٌ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا تَزِيدُ بِتَقْوَى وَلَا تَنْقُصُ بِفُجُورٍ.

قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} [الزخرف: ٣٢] وَهَذَا لَا يُنَافِي الزِّيَادَةَ فِي الْبَرَكَةِ وَالنُّقْصَانَ بِسَبَبِ الطَّاعَةِ وَالْعِصْيَانِ، إذْ الْمَنْفِيُّ الزِّيَادَةُ الْحِسِّيَّةُ وَالنَّقْصُ الْحِسِّيُّ.

وَلَمَّا بَيَّنَ الْمُصَنِّفُ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَدَأَ الْإِنْسَانَ وَأَحْسَنَ تَقْوِيمَهُ، شَرَحَ فِي تَعْدِيدِ نِعَمِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ: (وَعَلَّمَهُ) أَيْ وَعَلَّمَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ وَمَفْعُولُ عَلَّمَ (مَا لَمْ يَكُنْ) عِنْدَ خُرُوجِهِ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ (يَعْلَمُ) قَالَ تَعَالَى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ} [النحل: ٧٨] الْآيَةَ، فَشَمِلَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ كَالْآيَةِ الْعِلْمَ الْحَاصِلَ بِإِلْهَامٍ وَاكْتِسَابٍ، وَأَوَّلُ مَا يَعْلَمُهُ الْإِنْسَانُ مَعْرِفَةُ آبَائِهِ وَأَقَارِبِهِ، ثُمَّ تَمَيُّزُهُ بَيْنَ الْحَيَوَانَاتِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ الضَّرُورِيَّاتِ مِنْ الْآلَامِ وَاللَّذَّاتِ وَالْفَرَحِ وَالْحُزْنِ وَالسُّرُورِ، ثُمَّ مَعْرِفَةُ وُجُوبِ وُجُودِهِ تَعَالَى وَتَوْحِيدِهِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَى ذَلِكَ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْإِنْسَانِ الْجَهْلُ حَتَّى بَنَوْا عَلَيْهِ مَسْأَلَةً فِقْهِيَّةً وَهِيَ: لَوْ حَازَ شَخْصٌ شَيْئًا وَادَّعَى الْمُحَازُ عَنْهُ الْجَهْلَ وَادَّعَى الْحَائِزُ أَنَّهُ كَانَ عَالِمًا بِذَلِكَ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُحَازِ عَنْهُ.

(وَ) بِسَبَبِ ابْتِدَائِهِ وَامْتِنَانِهِ عَلَيْهِ بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ تَعْلِيمِهِ (كَانَ) أَيْ صَارَ (فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْهِ عَظِيمًا) بِسَبَبِ مَا امْتَنَّ عَلَيْهِ مِنْ إيجَادِهِ وَتَعْلِيمِهِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْلَمُ الَّذِي أَعْظَمُهُ مَعْرِفَةُ الْبَارِي الْمُتَرَتِّبُ عَلَيْهَا الْخُلُودُ فِي الْجَنَّةِ مَعَ الْفَوْزِ بِالنَّعِيمِ الْمُقِيمِ، إذْ لَا فَضْلٌ أَعْظَمَ مِنْ هَذَا، وَالْفَضْلُ إعْطَاءُ الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِ عِوَضٍ لَا فِي الْحَالِ وَلَا فِي الْمَالِ، وَهَذَا لَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِهِ تَعَالَى، وَإِنَّمَا قَالَ عَظِيمًا دُونَ غَيْرِهِ مِنْ الْأَوْصَافِ لِانْدِرَاجِ كُلِّ صِفَةٍ حَسَنَةٍ تَحْتَ الْعَظَمَةِ تَنْبِيهٌ فِي قَوْلِهِ وَعِلْمِهِ تَلْمِيحٌ بِالْآيَةِ السَّابِقَةِ وَهُوَ مِنْ الْمُحَسِّنَاتِ الْبَدِيعِيَّةِ وَلَيْسَ فِيهِ رِوَايَةُ الْقُرْآنِ بِالْمَعْنَى لِلْإِجْمَاعِ عَلَى مَنْعِهَا، وَلَيْسَ بِاقْتِبَاسٍ أَيْضًا لِكَثْرَةِ التَّغْيِيرِ فِيهِ وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

(وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (نَبَّهَهُ) أَيْ أَيْقَظَهُ مِنْ غَفْلَتِهِ بِأَنْ جَعَلَ لَهُ عَقْلًا يَهْتَدِي بِهِ إلَى الِاسْتِدْلَالِ (بِآثَارِ) أَيْ مُحْدَثَاتِ (صَنْعَتِهِ) عَلَى مَعْرِفَةِ صَانِعِهِ، وَالْمُرَادُ بِصَنْعَتِهِ صُنْعُهُ أَيْ إيجَادُهُ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ لِعَبْدِهِ مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِ خَالِقِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَسَائِرِ مَا يَجِبُ عَلَيْهِ لَهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَهِيَ جَمِيعُ الْمَخْلُوقَاتِ الَّتِي هِيَ آثَارُ صَنْعَتِهِ، فَإِنَّ النَّظَرَ فِيهَا يُوَصِّلُ إلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا فَسَّرْنَا الصَّنْعَةَ بِالصُّنْعِ الَّذِي هُوَ الْإِيجَادُ لِأَنَّ الصَّنْعَةَ حَقِيقَةً هِيَ الْعِلْمُ الْحَاصِلُ مِنْ التَّمَرُّنِ فِي الْعَمَلِ وَلَا تَصِحُّ إرَادَتُهَا هُنَا، وَطَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالْآثَارِ عَلَى مَعْرِفَةِ وُجُوبِ وُجُودِهِ أَنْ تَرَكَّبَ قِيَاسًا بِأَنْ تَقُولَ: هَذِهِ الْآثَارُ مَصْنُوعَاتٌ، وَهَذِهِ يُقَالُ لَهَا مُقَدِّمَةٌ صُغْرَى، وَكُلُّ مَصْنُوعٍ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ صَانِعٍ تَامِّ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَيُقَالُ لِهَذِهِ مُقَدِّمَةٌ كُبْرَى يُنْتِجُ هَذِهِ الْمَصْنُوعَاتِ لَهَا صَانِعٌ، وَمِنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>