للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الفواكه الدواني]

الطُّرُقِ الْمُوصِلَةِ إلَى مَعْرِفَةِ وُجُودِ الْخَالِقِ أَيْضًا أَنْ تَنْظُرَ إلَى أَقْرَبِ الْأَشْيَاءِ إلَيْك وَهِيَ نَفْسُك فَتَعْلَمَ بِالضَّرُورَةِ أَنَّك لَمْ تَكُنْ ثُمَّ كُنْت، فَتَعْلَمَ أَنَّ لَك مَوْجُودًا أَوْجَدَكَ لِاسْتِحَالَةِ أَنْ تُوجِدَ نَفْسَك، وَهُوَ مُحَالٌ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ التَّقَدُّمِ عَلَى نَفْسِهِ وَالتَّأَخُّرِ عَنْهَا لِوُجُوبِ سَبْقٍ لِلْفَاعِلِ عَلَى فِعْلِهِ.

تَنْبِيهٌ: لَمْ يُعْلَمْ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ نَظَرِ الْإِنْسَانِ فِي نَفْسِهِ أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَخْلُوقَاتِ، وَالْحُكْمُ فِيهِ الْوُجُوبُ لِلِاتِّفَاقِ عَلَى وُجُوبِ مَعْرِفَةِ اللَّهِ بِالدَّلِيلِ لِيَخْرُجَ مِنْ التَّقْلِيدِ إلَى التَّحْقِيقِ، وَهُوَ أَوَّلُ الْوَاجِبَاتِ عَلَى مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَيْهِ وَيَأْثَمُ بِتَرْكِهِ وَإِنْ كَانَ إيمَانُ الْمُقَلِّدِ صَحِيحًا عَلَى الْمُعْتَمَدِ.

قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ مُشِيرًا إلَى وُجُوبِ الْمَعْرِفَةِ وَمَا يُوَصِّلُ إلَيْهَا بِقَوْلِهِ:

وَاجْزِمْ بِأَنْ أَوَّلًا مِمَّا يَجِبُ ... مَعْرِفَةً وَفِيهِ خَلْفٌ مُنْتَصِبُ

فَانْظُرْ لِنَفْسِك ثُمَّ انْتَقِلْ ... لِلْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ ثُمَّ السُّفْلِيِّ

تَجِدْ بِهِ صُنْعًا بَدِيعَ الْحُكْمِ ... لَكِنْ بِهِ قَامَ دَلِيلُ الْعَدَمِ

فَالْوُجُوبُ بِالشَّرْعِ لَا بِالْعَقْلِ عِنْدَ أَهْلِ السُّنَّةِ.

(وَ) مِنْ فَضْلِهِ تَعَالَى عَلَى الْإِنْسَانِ أَنْ (أَعْذَرَ إلَيْهِ) أَيْ قَطَعَ عُذْرَهُ بِإِرْسَالِهِ إلَيْهِ الْأَحْكَامَ.

(عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ الْخِيَرَةِ) بِكَسْرِ الْخَاءِ وَفَتْحِ الْيَاءِ الْخُلَاصَةِ الْمُنْتَخَبِينَ الْخِبْرَةِ مَعَ زِيَادَةِ الْإِيضَاحِ.

(مِنْ خَلْقِهِ) تَعَالَى وَإِنَّمَا أَعْذَرَ اللَّهُ الْإِنْسَانَ، وَالْمُرَادُ جَمِيعَ أَفْرَادِهِ بِإِرْسَالِ الْمُرْسَلِينَ فَيُبَلِّغُوا لَهُمْ الْأَحْكَامَ وَيُوَضِّحُوا لَهُمْ الشَّرَائِعَ لِيَقْطَعُوا بِذَلِكَ حُجَّتَهُمْ وَيُزِيحُوا عَنْهُمْ عِلَلَهُمْ فِيمَا قَصَرَتْ عَنْ إدْرَاكِهِ عُقُولُهُمْ مِنْ مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

قَالَ تَعَالَى: {لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: ١٦٥] فَلَوْلَا إعْذَارُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى إلَيْهِمْ وَقَطْعُهُ عُذْرَهُمْ عَلَى أَلْسِنَةِ الْمُرْسَلِينَ وَإِقَامَتُهُ الْحُجَّةَ عَلَيْهِمْ بِبِعْثَتِهِ أَهْلَ خِيرَتِهِ الْمُرْشِدِينَ لَتَوَهَّمُوا أَنَّ لَهُمْ حُجَّةً وَعُذْرًا قَالَ تَعَالَى: {وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى} [طه: ١٣٤] لَا سِيَّمَا وَقَدْ جُعِلَتْ أَجْسَامُنَا تَقْبَلُ السَّهْوَ وَالْغَفْلَةَ، وَسُلِّطَتْ عَلَيْنَا الشَّيَاطِينُ وَالشَّهْوَةُ وَالْهَوَى؛ فَإِهْمَالُك إيَّانَا مِنْ غَيْرِ إرْسَالِ مَنْ يُعَلِّمُنَا بِمَا يَجِبُ أَوْ يُحَرِّمُ عَلَيْنَا إغْرَاءً لَنَا عَلَى فِعْلِ الْقَبَائِحِ وَتَرْكِ الْوَاجِبَاتِ، لَا سِيَّمَا مَعَ رَغْبَةِ النَّفْسِ إلَى نَيْلِ مُشْتَهَاهَا وَإِنْ كَانَ مُوجِبًا لِهَلَاكِهَا وَرَدَاهَا، وَالْمُرْسَلِينَ جَمْعُ مُرْسَلٌ وَهُوَ إنْسَانٌ حُرٌّ ذَكَرٌ أُوحِيَ إلَيْهِ بِشَرْعٍ وَأُمِرَ بِتَبْلِيغِهِ لِلْعِبَادِ حَتَّى إلَى نَفْسِهِ، لِأَنَّ الرَّسُولَ إذَا بَلَّغَ الْأُمَّةَ حُكْمًا فَإِنَّهُ يَكُونُ مُسَاوِيًا لَهُمْ فِي ذَلِكَ الْحُكْمِ إلَّا أَنْ يَقُومَ الدَّلِيلُ عَلَى التَّخْصِيصِ لَهُمْ، وَبِهَذَا عَرَفْت أَنَّهُ لَا إشْكَالَ فِي قَوْلِ الْمُصَنِّفِ وَأَعْذَرَ إلَيْهِ أَيْ إلَى الْإِنْسَانِ الْمُوهِمِ خُرُوجُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَفْرَادِهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الرَّسُولِ مُغَايِرَتُهُ لِلْمُرْسَلِ إلَيْهِ إلَّا فِي مِثْلِ هَذَا الْمَوْضِعِ، فَإِنَّ الرَّسُولَ دَاخِلٌ فِي الْمُرْسَلِ إلَيْهِمْ وَإِنْ اخْتَلَفَ حَالُ الْمُرْسَلِينَ، لِأَنَّ مِنْهُمْ مَنْ أُرْسِلَ إلَى جَمِيعِ النَّاسِ كَنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَمَنْ عَدَاهُ إنَّمَا أُرْسِلَ إلَى الْبَعْضِ.

وَاسْتُعْمِلَ جَمْعُ الْقِلَّةِ مَوْضِعَ جَمْعِ الْكَثْرَةِ مَجَازًا لِأَنَّ عِدَّتَهُمْ كَثِيرَةٌ تَزِيدُ عَلَى ثَلَثِمِائَةٍ أَوْ أَرْبَعَةَ عَشَرَ، وَالْأَوْلَى عَدَمُ الِاقْتِصَارِ عَلَى عَدَدٍ فِيهِمْ كَالْأَنْبِيَاءِ أَوَّلُهُمْ لَهُمْ آدَم - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَآخِرُهُمْ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَمَنْ فِي خُلُقِهِ لِبَيَانِ الْجِنْسِ، فَيُفِيدُ تَفْضِيلُ رُسُلِ الْبَشَرِ عَلَى الْمَلَائِكَةِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْأَكْثَرِ، وَأَفْضَلُ الرُّسُلِ مُحَمَّدٌ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ وَلِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلَا فَخْرَ» وَيَلِيهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْفَضْلِ أُولُوا الْعَزْمِ أَيْ الصَّبْرِ عَلَى الْمَشَاقِّ كَإِبْرَاهِيمَ وَنُوحٍ وَمُوسَى وَعِيسَى وَإِسْمَاعِيلَ، لِصَبْرِ إبْرَاهِيمَ عَلَى النَّارِ، وَنُوحٍ عَلَى أَذَى قَوْمِهِ، وَإِسْمَاعِيلَ عَلَى الذَّبْحِ لِأَنَّهُ الذَّبِيحُ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ لَا إِسْحَاقَ، وَعِدَّتُهُمْ عَشَرَةٌ وَقِيلَ خَمْسَةٌ، وَلِشِدَّةِ صَبْرِهِمْ وَعَظَمَتِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ وَالْيَقِظَةِ بِخِلَافِ غَيْرِهِمْ إنَّمَا كَانَ يُوحَى إلَيْهِ فِي النَّوْمِ دُونَ الْيَقِظَةِ، وَيَلِي الْأَنْبِيَاءَ مُطْلَقًا فِي الْفَضْلِ الْمَلَائِكَةُ.

قَالَ صَاحِبُ الْجَوْهَرَةِ:

وَأَفْضَلُ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ ... نَبِيُّنَا فَمِلْ عَنْ الشِّقَاقِ

وَالْأَنْبِيَاءُ يَلُونَهُ فِي الْفَضْلِ ... وَبَعْدَهُمْ مَلَائِكَةُ ذِي الْفَضْلِ

وَهَذِهِ طَرِيقَةُ الْأَشَاعِرَةِ وَفِيهَا تَفْضِيلُ عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ غَيْرُ الرُّسُلِ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَالْعُلَمَاءِ وَالْأَوْلِيَاءِ نَحْوُ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَغَيْرِهِمَا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ وَمُقَابِلُهَا طَرِيقَةُ الْمَاتُرِيدِيَّةِ، وَاعْتَمَدَ بَعْضُهُمْ تَفْضِيلَ خَوَاصِّ الْبَشَرِ وَهُمْ الرُّسُلُ عَلَى سَائِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَتَفْضِيلُ خَوَاصِّ الْمَلَائِكَةِ وَهُمْ رُسُلُهُمْ كَجِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ عَلَى عَوَامِّ الْبَشَرِ كَأَبِي بَكْرٍ، وَعَوَامِّ الْبَشَرِ عَلَى عَوَامِّ الْمَلَائِكَةِ.

وَفِي مَنْهَجِ الْأُصُولِيِّينَ لِلسَّرَّاجِ الْبُلْقِينِيِّ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْخَوَاصَّ مِنْ الْمَلَائِكَةِ أَفْضَلُ مِنْ الْأَنْبِيَاءِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالْأَنْبِيَاءُ غَيْرُ الرُّسُلِ أَفْضَلُ مِنْ الْمَلَائِكَةِ غَيْرِ الرُّسُلِ، وَالتَّفْضِيلُ حَيْثُ قِيلَ بِهِ يَكُونُ بِاعْتِبَارِ كَثْرَةِ الثَّوَابِ وَالْعَمَلُ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى مَزِيَّةِ الْمُصْطَفَى أَيْضًا أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ مُعْجِزَاتٌ كَمُعْجِزَاتِهِ كَمِّيَّةٌ وَلَا كَيْفِيَّةٌ، وَلَا نَزَلَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ كَعَدَدِ نُزُولِهِ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ نَزَلَ عَلَيْهِ أَرْبَعًا وَعِشْرِينَ أَلْفَ مَرَّةٍ وَقِيلَ سِتًّا

<<  <  ج: ص:  >  >>