اللَّهُمَّ إنَّا نَسْتَعِينُكَ وَنَسْتَغْفِرُك وَنُؤْمِنُ بِك وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك، وَنَخْشَعُ لَك وَنَخْلَعُ وَنَتْرُكُ مَنْ يَكْفُرُكَ اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ وَإِلَيْك نَسْعَى وَنَحْفِدُ نَرْجُو رَحْمَتَكَ وَنَخَافُ عَذَابَكَ الْجِدَّ إنَّ عَذَابَك بِالْكَافِرِينَ مُلْحَقٌ
ثُمَّ تَفْعَلُ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
عَنْ الْأُولَى كَمَا ذَكَرْنَا،
وَسِوَى مَا اسْتَثْنَاهُ بِقَوْلِهِ: (غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ) نَدْبًا فِي الثَّانِيَةِ (بَعْدَ الرُّكُوعِ، وَإِنْ شِئْت قَنَتَّ قَبْلَ الرُّكُوعِ) لَكِنْ (بَعْدَ تَمَامِ الْقِرَاءَةِ) وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ اسْتِوَاءُ الْأَمْرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ بَلْ الْمَشْهُورُ فِي الْمَذْهَبِ وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ أَفْضَلِيَّتُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ لِمَا فِي الصَّحِيحِ: مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ أَهُوَ قَبْلَ الرُّكُوعِ أَمْ بَعْدَهُ؟ فَقَالَ: قَبْلَ» . قِيلَ لِأَنَسٍ: إنَّ فُلَانًا يُحَدِّثُ عَنْك أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَنَتَ بَعْدَ الرُّكُوعِ فَقَالَ: كَذَبَ فُلَانٌ، وَلِمَا فِي كَوْنِهِ قَبْلَ الرُّكُوعِ مِنْ الرِّفْقِ بِالْمَسْبُوقِ فَإِذَا قَنَتَ قَبْلَ الرُّكُوعِ عَلَى مَا هُوَ الْأَفْضَلُ فَلَا يُكَبِّرُ وَلَا يَرْفَعُ يَدَيْهِ كَمَا لَا يَرْفَعُ فِي التَّأْمِينِ وَلَا فِي دُعَاءِ التَّشَهُّدِ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَكُونَ سِرًّا؛ لِأَنَّهُ دُعَاءٌ فَيُطْلَبُ إخْفَاؤُهُ.
وَإِذَا نَسِيَ وَرَكَعَ قَبْلَهُ فَإِنَّهُ يُكَمِّلُ رُجُوعَهُ وَيَقْنُتُ بَعْدَ الرُّكُوعِ وَلَا يَبْطُلُ الرُّكُوعُ وَيَرْجِعُ لَهُ، فَإِنْ فَعَلَ بَطَلَتْ صَلَاتُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْجِعُ مِنْ فَرْضٍ لِمَا هُوَ دُونَهُ، وَاخْتُلِفَ فِي الْمَسْبُوقِ بِرَكْعَةٍ مِنْ الصُّبْحِ فَقِيلَ: يَقْنُتُ فِي رَكْعَةِ الْقَضَاءِ، وَقِيلَ: لَا يَقْنُتُ وَالْمُعْتَمَدُ أَنَّهُ يَقْنُتُ، وَلَا يُعَارِضُهُ قَوْلُ خَلِيلٍ: وَقَضَى الْقَوْلَ وَبَنَى الْفِعْلَ الْمُوهِمَ عَدَمَ الْقُنُوتِ مِنْ قَوْلِهِ قَضَى الْقَوْلَ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بِالْقَوْلِ فِي كَلَامِهِ خُصُوصُ الْقِرَاءَةِ وَمَا عَدَا الْقِرَاءَةَ يَكُونُ بَانِيًا فِيهِ، فَيَنْدُبُ لَهُ الْقُنُوتُ فِي الثَّانِيَةِ، وَإِنَّمَا يُسْتَحَبُّ الْقُنُوتُ عِنْدَنَا فِي الصُّبْحِ فَقَطْ وَلَوْ كَانَتْ فَائِتَةً لَا فِي وِتْرٍ وَلَا فِي غَيْرِهِ مِنْ الصَّلَوَاتِ سِوَى الصُّبْحِ؛ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَا زَالَ يَقْنُتُ فِي الصُّبْحِ حَتَّى فَارَقَ الدُّنْيَا، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَنَتَ فِي الْمَغْرِبِ فَلَمْ يَصْحَبْهُ عَمَلٌ فَتُلَخَّصُ فِي أَنَّ الْقُنُوتَ خَمْسُ مُسْتَحَبَّاتٍ: كَوْنُهُ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَكَوْنُهُ سِرًّا وَكَوْنُهُ فِي الصُّبْحِ وَمُطْلَقٌ مُسْتَحَبٌّ وَكَوْنُهُ بِخُصُوصِ اللَّفْظِ الْآتِي.
قَالَ خَلِيلٌ: وَقُنُوتٌ سِرًّا بِصُبْحِ فَقَطْ قَبْلَ الرُّكُوعِ وَلَفْظُهُ، وَلَمَّا قَالَ غَيْرَ أَنَّك تَقْنُتُ نَاسَبَ أَنْ يَنُصَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (وَالْقُنُوتُ) لُغَةً الطَّاعَةُ وَالسُّكُوتُ وَالْمُرَادُ بِهِ هُنَا الدُّعَاءُ.
قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: قَالَ مَالِكٌ لَيْسَ فِي الْقُنُوتِ دُعَاءٌ مَخْصُوصٌ بَلْ الْمَقْصُودُ مُطْلَقُ دُعَاءٍ، وَلَكِنَّ الْمُسْتَحَبَّ خُصُوصُ هَذَا وَهُوَ: (اللَّهُمَّ) أَيْ يَا اللَّهُ فَحُذِفَتْ يَاءُ النِّدَاءِ وَعُوِّضَ عَنْهَا الْمِيمُ وَشُدِّدَتْ؛ لِأَنَّهَا عِوَضٌ مِنْ يَاءٍ وَهِيَ حَرْفَانِ وَلِذَا لَا يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا إلَّا فِي ضَرُورَةِ الشَّعْرِ.
(إنَّا نَسْتَعِينُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْإِعَانَةَ عَلَى طَاعَتِك أَوْ عَلَى جَمِيعِ مُهِمَّاتِنَا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَذْفُ الْمُتَعَلِّقِ الْمُؤْذِنِ بِالْعُمُومِ عَلَى حَدِّ: {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلامِ} [يونس: ٢٥] أَيْ جَمِيعَ عِبَادِهِ (وَنَسْتَغْفِرُك) أَيْ نَطْلُبُ مِنْك الْمَغْفِرَةَ، وَهِيَ سِتْرُ ذُنُوبِنَا وَعَدَمُ مُؤَاخَذَتِنَا عَلَيْهَا.
(وَنُؤْمِنُ بِك) أَيْ نُصَدِّقُ بِوُجُوبِ وُجُودِك وَجَمِيعِ مَا يَجِبُ لَك عَلَيْنَا. (وَنَتَوَكَّلُ) أَيْ نَعْتَمِدُ (عَلَيْك) فِي جَمِيعِ أُمُورِنَا فَإِنَّا لَا حَوْلَ لَنَا وَلَا قُوَّةَ.
قَالَ سَيِّدِي أَحْمَدُ زَرُّوقٌ: وَالصَّحِيحُ أَنَّ لَفْظَ وَنَتَوَكَّلُ عَلَيْك لَيْسَ فِي الرِّسَالَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ زِيَادَةِ بَعْضِ الرُّوَاةِ، وَرُبَّمَا ثَبَتَ فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ. (وَنُثْنِي عَلَيْك الْخَيْرَ كُلَّهُ) وَالصَّوَابُ عَدَمُ زِيَادَتِهَا (وَنَخْشَعُ) أَيْ وَنَخْضَعُ وَنَذِلُّ وَنَلْجَأُ (لَك) ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ الْمَخْلُوقَاتِ مُفْتَقِرَةٌ إلَيْك (وَنَخْلَعُ) أَيْ وَنُزِيلُ رِبْقَةَ الْكُفْرِ مِنْ أَعْنَاقِنَا بِمَعْنَى نَتْرُكُ جَمِيعَ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ لِاتِّبَاعِ دِينِك وَطَرِيقَةِ نَبِيِّك مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -.
(وَنَتْرُكُ) أَيْ نَطْرَحُ مَوَدَّةَ كُلِّ (مَنْ يَكْفُرُك) وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا عَدَمُ حُرْمَةِ نِكَاحِ الْكِتَابِيَّةِ مَعَ أَنَّ فِي نِكَاحِهَا مَوَدَّةً؛ لِأَنَّ النِّكَاحَ مِنْ بَابِ الْمُعَامَلَاتِ، وَلِأَنَّ الْمَطْلُوبَ عَدَمُ الْمَوَدَّةِ الَّتِي مَعَهَا مَحَبَّةٌ لِدِينِهِمْ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} [المجادلة: ٢٢] الْآيَةَ، وَالنِّكَاحُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ مَحَبَّةُ الدِّينِ إذْ يُمْكِنُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا مَعَ كَرَاهَةِ دِينِهَا بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ ذَلِكَ. (اللَّهُمَّ إيَّاكَ نَعْبُدُ) أَيْ نَخُصُّك بِالْعِبَادَةِ؛ لِأَنَّ عِبَادَةَ غَيْرِك كُفْرٌ، وَالدَّلِيلُ عَلَى هَذَا تَقْدِيمُ الْمَعْمُولِ نَحْوَ إيَّاكَ نَعْبُدُ (وَلَك نُصَلِّي وَنَسْجُدُ) أَيْ لَا نُصَلِّي وَلَا نَسْجُدُ إلَّا لَك، وَذَكَرَهُمَا بَعْدَ الْعِبَادَةِ تَنْبِيهًا عَلَى شَرَفِهِمَا. (وَإِلَيْك نَسْعَى) أَيْ لَا نَعْمَلُ طَاعَةً وَلَا شَيْئًا مِنْ أَنْوَاعِ الْخَيْرِ إلَّا لَك (وَ) إلَيْك (نَحْفِدُ) بِفَتْحِ الْفَاءِ وَكَسْرِهَا وَالدَّالُ الْمُهْمَلَةُ أَيْ نَخْدِمُ وَنُسْرِعُ فِي طَاعَتِك، وَمِنْهُ تَسْمِيَةُ الْخِدْمَةِ حِفْدَةً لِسُرْعَتِهِمْ فِي خِدْمَةِ السَّادَاتِ. (نَرْجُو رَحْمَتَك) أَيْ نَطْلُبُ وَنَطْمَعُ فِي نَيْلِ إحْسَانِك، إذْ الرَّجَاءُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِمَرْغُوبٍ فِيهِ مَعَ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِهِ.
(وَنَخَافُ عَذَابَك) فَنَتَجَنَّبُ جَمِيعَ مُنْهَيَاتِك (الْجِدَّ) بِكَسْرِ الْجِيمِ عَلَى الْأَشْهُرِ أَيْ الثَّابِتَ الْحَقَّ؛ لِأَنَّهُ ضِدُّ الْهَزْلِ وَيُرْوَى وَالْجَدُّ بِالْفَتْحِ مَصْدَرُ جَدَّ، وَجَمَعَ بَيْنَ الرَّجَاءِ وَالْخَوْفِ؛ لِأَنَّ شَأْنَ الْقَادِرِ أَنْ يُرْجَى فَضْلُهُ وَيُخَافُ عَذَابُهُ وَهِيَ أَحْسَنُ الْحَالَاتِ إلَّا فِي حَالِ الْمَرَضِ فَتَغَلُّبُ الرَّجَاءِ عَلَى الْخَوْفِ أَفْضَلُ.
وَفِي الْحَدِيثِ: «لَا يَجْتَمِعَانِ فِي قَلْبِ عَبْدٍ مُؤْمِنٍ إلَّا أَعْطَاهُ اللَّهُ مَا يَرْجُوهُ وَأَمَّنَهُ مِمَّا يَخَافُ مِنْهُ» إلَّا أَنَّهُ فِي حَالِ الشُّبُوبِيَّةِ وَالْكُهُولَةِ يَغْلِبُ الْخَوْفُ، وَفِي حَالِ الشُّيُوخَةِ وَالْمَرَضِ يَغْلِبُ الرَّجَاءُ (إنَّ عَذَابَك) الْجِدَّ (بِالْكُفَّارِ مُلْحِقٌ) بِكَسْرِ الْحَاءِ وَفَتْحِهَا، فَالْكَسْرُ بِمَعْنَى لَاحِقٌ وَالْفَتْحُ بِمَعْنَى أَنَّ اللَّهَ مُلْحِقُهُ بِالْكَافِرِينَ، وَهَذَا الْقُنُوتُ اخْتَارَهُ فِي