كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ سَوَاءً، إلَّا أَنَّهُ يَقْرَأُ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا
وَأَمَّا الْمَغْرِبُ فَيَجْهَرُ بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ، وَفِي الثَّانِيَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ وَيَتَشَهَّدُ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَتَنَفَّلَ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ وَالتَّنَفُّلُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ مُرَغَّبٌ فِيهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنْ شَأْنِهَا فَكَمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي
ــ
[الفواكه الدواني]
مُسْتَجَابٌ، فَإِذَا صَلَّى دَخَلَ فِي دُعَائِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
قَالَ الْعَلَّامَةُ خَلِيلٌ: وَالْحِكْمَةُ فِي تَقْدِيمِ النَّفْلِ عَلَى الْفَرْضِ وَتَأْخِيرِهِ عَنْهُ أَنَّ الْعَبْدَ مَشْغُولٌ بِأَمْرِ الدُّنْيَا فَتَنْفِرُ نَفْسُهُ مِنْ الْعِبَادَةِ أَشَدَّ نُفُورٍ، فَأَمَرَ بِصَلَاةِ أَرْبَعٍ قَبْلَ الظُّهْرِ لِتَتَأَنَّسَ نَفْسُهُ وَيَحْضُرَ قَلْبُهُ فَيَأْلَفَ الْعِبَادَةَ، وَأَمَّا بَعْدَ الْفَرَائِضِ فَلِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ النَّوَافِلَ جَابِرَةٌ لِنُقْصَانِ الْفَرَائِضِ لِمَا عَسَاهُ أَنْ يَكُونَ نَقَصَ مِنْهَا، وَمَعَ هَذَا لَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَنَفَّلَ الْإِنْسَانُ بِقَصْدِ إنْ كَانَ حَصَلَ مِنْهُ نَقْصٌ يَكُونُ هَذَا جَابِرًا لَهُ لِكَرَاهَةِ تِلْكَ النِّيَّةِ.
قَالَ فِي سَمَاعِ ابْنِ الْقَاسِمِ: وَلَيْسَ مِنْ عَمَلِ النَّاسِ أَنْ يَتَنَفَّلَ وَيَقُولَ أَخَافُ أَنِّي نَقَصْت مِنْ الْفَرِيضَةِ وَمَا سَمِعْت أَحَدًا مِنْ أَهْلِ الْفَضْلِ يَفْعَلُهُ.
(وَيَفْعَلُ فِي) صَلَاةِ (الْعَصْرِ كَمَا وَصَفْنَا فِي الظُّهْرِ) حَالَةَ كَوْنِهِمَا (سَوَاءً) أَيْ مُسْتَوِيَتَيْنِ فِي الْإِسْرَارِ وَالْجُلُوسِ بَيْنَ رَكْعَتَيْنِ وَكُلِّ مَا تَقَدَّمَ (إلَّا أَنَّهُ) يُسْتَحَبُّ لَهُ أَنْ (يَقْرَأَ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ) مَعَ الْعَصْرِ (مَعَ أُمِّ الْقُرْآنِ بِالْقِصَارِ مِنْ السُّوَرِ) الْمُشَارِ إلَى أَوَّلِهَا بِقَوْلِهِ: (مِثْلُ وَالضُّحَى وَإِنَّا أَنْزَلْنَاهُ وَنَحْوِهِمَا) إلَى آخِرِ الْقُرْآنِ، فَلَوْ افْتَتَحَ الْعَصْرَ بِسُورَةٍ مِنْ طِوَالِ الْمُفَصَّلِ تَرَكَهَا وَقَرَأَ قَصِيرَةً، وَسَكَتَ عَنْ التَّنَفُّلِ بَعْدَهَا لِكَرَاهَتِهِ بَعْدَ فِعْلِ صَلَاةِ الْعَصْرِ وَحُرْمَتِهِ عِنْدَ الْغُرُوبِ،
وَلَمَّا كَانَتْ صِفَةُ صَلَاةِ الْمَغْرِبِ مُخَالِفَةً لِصِفَةِ صَلَاةِ الظُّهْرِ وَالْعَصْرِ مِنْ جِهَةِ الْجَهْرِ وَالسِّرِّ أَتَى بِأَمَّا الْفَاصِلَةِ فَقَالَ: (وَأَمَّا) صَلَاةُ (الْمَغْرِبِ فَيَجْهَرُ) اسْتِنَانًا (بِالْقِرَاءَةِ فِي الرَّكْعَتَيْنِ الْأُولَيَيْنِ مِنْهَا) وَيُسِرُّ فِي الثَّالِثَةِ، وَهَذَا مِمَّا لَا نِزَاعَ فِيهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ. (وَيَقْرَأُ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ الْأُولَيَيْنِ (بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَسُورَةٍ مِنْ السُّوَرِ الْقِصَارِ) لِضِيقِ وَقْتِهَا، فَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ يَقْرَأُ فِيهِمَا مِنْ قِصَارِ الْمُفَصَّلِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَتَقْصِيرُهَا بِمَغْرِبٍ وَعَصْرٍ، وَمَا رَوَاهُ النَّسَائِيُّ وَأَبُو دَاوُد مِنْ «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ يَقْرَأُ فِي الْمَغْرِبِ بِآلِ عِمْرَانَ» فَقِيلَ: إنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى مَنْ عَرَفَ مِمَّنْ خَلْفَهُ الرِّضَا بِذَلِكَ، وَإِلَّا فَاَلَّذِي اسْتَمَرَّ عَلَيْهِ الْعَمَلُ التَّخْفِيفُ، وَالْأَوْلَى فِي الْجَوَابِ عَنْ قِرَاءَتِهِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِالسُّورَةِ الطَّوِيلَةِ مَا قَالَهُ الْأُجْهُورِيُّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ: مِنْ أَنَّ التَّضْيِيقَ فِي وَقْتِ الْمَغْرِبِ إنَّمَا هُوَ بِالنِّسْبَةِ لِلشُّرُوعِ فِيهَا فَقَطْ.
(وَ) يَقْرَأُ (فِي الثَّالِثَةِ بِأُمِّ الْقُرْآنِ فَقَطْ) أَيْ فَحَسْبُ زَادَهُ لِلرَّدِّ عَلَى الْقَائِلِ بِزِيَادَةِ سُورَةٍ عَلَى أُمِّ الْقُرْآنِ فِي الثَّالِثَةِ كَالْأُولَى وَالثَّانِيَةِ، وَمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ الصِّدِّيقَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - كَانَ يَقْرَأُ فِيهَا بِأُمِّ الْقُرْآنِ وَ {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران: ٨] فَهُوَ مَذْهَبُ صَحَابِيٍّ يُحْفَظُ وَلَا يُتَّبَعُ، وَلِذَا قَالَ مَالِكٌ: يُسَنُّ الْعَمَلُ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا دَعَا بِذَلِكَ لِكَثْرَةِ الِارْتِدَادِ فِي زَمَنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -، وَمَا أَجَابَ بِهِ الْبَاجِيُّ مِنْ أَنَّهُ لَمْ يَقْصِدْ بِهِ الْقِرَاءَةَ فَغَيْرُ صَوَابٍ لِكَرَاهَةِ الدُّعَاءِ فِي أَثْنَاءِ الْفَاتِحَةِ وَبَعْدَهَا، وَإِنْ رَفَعَ رَأْسَهُ مِنْ سُجُودِ الثَّالِثَةِ فَإِنَّهُ يَجْلِسُ (وَيَتَشَهَّدُ) وَيُصَلِّي عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَدْعُو كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَشَهُّدِ الصُّبْحِ (وَيُسَلِّمُ) عَلَى الْكَيْفِيَّةِ الْمُتَقَدِّمِ ذِكْرُهَا مِنْ أَنَّ ابْتِدَاءَ التَّسْلِيمَةِ عَلَى قُبَالَةِ وَجْهِهِ وَتَيَامُنِهِ بِالْكَافِ وَالْمِيمِ بِحَيْثُ تَرَى صَفْحَةَ وَجْهِهِ إنْ كَانَ إمَامًا أَوْ فَذًّا، وَإِنْ كَانَ مَأْمُومًا فَيُسَلِّمُهَا عَلَى جِهَةِ يَمِينِهِ.
(وَ) إذَا أَتَى بِشَيْءٍ مِنْ الْأَذْكَارِ بَعْدَ سَلَامِهَا (يُسْتَحَبُّ) لَهُ (أَنْ) هـ (يَتَنَفَّلَهُ بَعْدَهَا بِرَكْعَتَيْنِ) لِمَا فِي التِّرْمِذِيِّ وَالنَّسَائِيِّ «أَنَّهُ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ» وَرَوَى عَنْ عَبْدِ الرَّزَّاقِ فِي جَامِعِهِ مَرْفُوعًا: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ رَكْعَتَيْنِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ كُتِبَتَا فِي عِلِّيِّينَ» وَيَنْبَغِي الْمُبَادَرَةُ بِهِمَا لِمَا رَوَاهُ أَبُو الشَّيْخِ وَرَزِينٌ فِي جَامِعِهِ: «تَعَجَّلُوا الرَّكْعَتَيْنِ بَعْدَ الْمَغْرِبِ فَإِنَّهُمَا يُرْفَعَانِ مَعَ الْمَكْتُوبَةِ» .
(وَمَا زَادَ) عَلَى الرَّكْعَتَيْنِ (فَهُوَ خَيْرٌ) أَيْ أَكْثَرُ ثَوَابًا، فَفِي التِّرْمِذِيِّ وَابْنِ مَاجَهْ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ عِشْرِينَ رَكْعَةً بَنَى اللَّهُ لَهُ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ» . (وَإِنْ تَنَفَّلَ) بَعْدَهَا (بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ) أَيْ مُسْتَحَبٌّ لِحَدِيثِ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ لَمْ يَتَكَلَّمْ بَيْنَهُنَّ بِسُوءٍ عُدِلْنَ لَهُ بِعِبَادَةِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً» قِيلَ مِنْ عِبَادَةِ بَنِي إسْرَائِيلَ، وَوَرَدَ: «مَنْ صَلَّى بَعْدَ الْمَغْرِبِ سِتَّ رَكَعَاتٍ غُفِرَتْ ذُنُوبُهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ» وَوَرَدَ: «مَنْ صَلَّى سِتَّ رَكَعَاتٍ بَعْدَ الْمَغْرِبِ قَبْلَ أَنْ يَتَكَلَّمَ غُفِرَتْ لَهُ بِهَا ذُنُوبُ خَمْسِينَ سَنَةً» .
(تَنْبِيهٌ) لَا يَخْفَى أَنَّ قَوْلَهُ: وَإِنْ تَنَفَّلَ بِسِتِّ رَكَعَاتٍ فَحَسَنٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمَحْدُودِ، فَكَانَ يَنْبَغِي تَقْدِيمُهَا عَلَى قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ؛ لِأَنَّ الْمُنَاسِبَ ذِكْرُ الْمَحْدُودِ أَوَّلًا، ثُمَّ يَعْقُبُهُ بِقَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ، وَيُعْلَمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَمَا زَادَ فَهُوَ خَيْرٌ أَنَّ التَّحْدِيدَ غَيْرُ شَرْطٍ إلَّا فِي الثَّوَابِ الْمُرَتَّبِ عَلَى ذَلِكَ الْعَدَدِ كَمَا قَدَّمْنَا.
(وَ) بِالْجُمْلَةِ (التَّنَفُّلُ