عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَطَرِيقَتِهِ، مَعَ مَا سَهَّلَ سَبِيلَ مَا أَشْكَلَ مِنْ ذَلِكَ مِنْ تَفْسِيرِ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْأَجْسَامِ وَالصِّفَاتِ وَالْأَعْرَاضِ فَلَا تُسَمَّى فِقْهًا، وَبِالشَّرْعِيَّةِ عَنْ الْعَقْلِيَّةِ كَأَحْكَامِ الْحِسَابِ وَالْهَنْدَسَةِ فَلَا تُسَمَّى مَعْرِفَتُهَا فِقْهًا، وَبِالْمُكْتَسِبِ مِنْ الْأَدِلَّةِ عَنْ جَزْمِ الْمُقَلِّدِ وَعَنْ شَعَائِرِ الْإِسْلَامِ كَوُجُوبِ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ مَعْلُومٌ لِلْإِنْسَانِ بِالضَّرُورَةِ مِنْ غَيْرِ اسْتِدْلَالٍ، وَكَذَلِكَ عِلْمُ اللَّهِ تَعَالَى وَعِلْمُ الرَّسُولِ وَعِلْمُ الْمَلَكِ فَإِنَّهُ بِالْوَحْيِ، فَلَا يُسَمَّى شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ فِقْهًا لِعَدَمِ اكْتِسَابِهِ مِنْ الدَّلِيلِ وَخَرَجَ بِالتَّفْصِيلِيَّةِ عِلْمُ الْمُقَلِّدِ فَإِنَّهُ مُكْتَسَبٌ مِنْ دَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ، لِأَنَّ كُلَّ مَا أَفْتَى بِهِ الْمُفْتِي فَهُوَ فِي حَقِّهِ حُكْمُ اللَّهِ بِدَلِيلٍ إجْمَالِيٍّ لَا تَفْصِيلِيٍّ لِأَنَّهُ الَّذِي يَخْتَصُّ بِكُلِّ مَسْأَلَةٍ.
وَمَوْضُوعُهُ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ مِنْ حَيْثُ عُرُوضُ الْأَحْكَامِ لَهَا.
وَاسْتِمْدَادُهُ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْإِجْمَاعِ وَالْقِيَاسِ وَسَائِرِ الْأَدِلَّةِ الْمَعْرُوفَةِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ شَارِحُ الْمُدَوَّنَةِ نَقْلًا عَنْ أَبِي مُحَمَّدٍ صَالِحٍ: الْأَدِلَّةُ الَّتِي بَنَى عَلَيْهَا مَالِكٌ مَذْهَبَهُ سِتَّةَ عَشَرَ: نَصُّ الْكِتَابِ، وَظَاهِرُ الْكِتَابِ وَهُوَ الْعُمُومُ، وَدَلِيلُ الْكِتَابِ وَهُوَ مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ، وَمَفْهُومُ الْكِتَابِ وَهُوَ الْمَفْهُومُ بِالْأَوْلَى، وَتَنْبِيهُ الْكِتَابِ وَهُوَ التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ مِثْلُ قَوْله تَعَالَى: {فَإِنَّهُ رِجْسٌ} [الأنعام: ١٤٥] أَوْ فِسْقًا، وَمِنْ السُّنَّةِ أَيْضًا مِثْلُ هَذِهِ الْخَمْسَةِ.
وَالْحَادِيَ عَشَرَ: الْإِجْمَاعُ.
وَالثَّانِيَ عَشَرَ: الْقِيَاسُ.
وَالثَّالِثَ عَشَرَ: عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ.
وَالرَّابِعَ عَشَرَ: قَوْلُ الصَّحَابِيِّ.
وَالْخَامِسَ عَشَرَ: الِاسْتِحْسَانُ.
وَالسَّادِسَ عَشَرَ: الْحُكْمُ بِالذَّرَائِعِ أَيْ بِسَدِّ الذَّرَائِعِ، وَاخْتَلَفَ قَوْلُهُ فِي السَّابِعَ عَشَرَ وَهُوَ مُرَاعَاةُ الْخِلَافِ فَمَرَّةً رَاعَاهُ وَمَرَّةً لَمْ يُرَاعِهِ.
قَالَ الشَّيْخُ أَبُو الْحَسَنِ: وَمِمَّا بَنَى عَلَيْهِ مَذْهَبَهُ الِاسْتِصْحَابُ اهـ مِنْ الْأُجْهُورِيِّ فِي شَرْحِ خَلِيلٍ.
وَفَائِدَتُهُ: امْتِثَالُ أَوَامِرِ اللَّهِ وَاجْتِنَابُ نَوَاهِيهِ الْمُحَصِّلَانِ لِلْفَوَائِدِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالْأُخْرَوِيَّةِ حَالَ كَوْنِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ مُشْتَمِلَةً.
(عَلَى) بَيَانِ (مَذْهَبِ) الْإِمَامِ (مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -) وَأَنَسٌ هُوَ ابْنُ مَالِكِ بْنِ أَبِي عَامِرِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ بْنِ غَيْمَانَ بْنِ خُثَيْلِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْحَارِثِ، وَهُوَ ذُو أَصْبَحَ بِفَتْحِ الْهَمْزَةِ وَفَتْحِ الْبَاءِ وَهِيَ بَطْنٌ مِنْ حِمْيَرَ، وَإِنَّمَا قِيلَ ذُو أَصْبَحَ وَلَمْ يَقُلْ الْأَصْبَحِيُّ لِأَنَّ الْعَادَاتِ عِنْدَ الْعَرَبِ إذَا كَانَ الشَّخْصُ مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ يَقُولُونَ ذُو كَذَا، وَالْإِمَامُ مِنْ بُيُوتِ الْمُلُوكِ، وَغَيْمَان بِغَيْنٍ مُعْجَمَةٍ مَفْتُوحَةٍ فَمُثَنَّاةٍ تَحْتِيَّةٍ، وَخُثَيْلٌ بِخَاءٍ مُعْجَمَةٍ مَضْمُومَةٍ فَثَاءٌ مُثَلَّثَةٌ فَمُثَنَّاةٌ سَاكِنَةٌ، وَأَبُو عَامِرٍ جَدُّ أَبِي مَالِكٍ الْإِمَامِ صَحَابِيٌّ شَهِدَ الْمَغَازِيَ كُلَّهَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَلَا بَدْرًا، وَوَلَدُهُ مَالِكٌ جَدُّ مَالِكٍ كُنْيَتُهُ أَبُو أَنَسٍ مِنْ كِبَارِ التَّابِعِينَ، يَرْوِي عَنْ عُمَرَ وَطَلْحَةَ وَعَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَحَسَّانَ بْنِ ثَابِتٍ وَهُوَ أَحَدُ الْأَرْبَعَةِ الَّذِينَ حَمَلُوا عُثْمَانَ لَيْلًا إلَى قَبْرِهِ وَغَسَّلُوهُ وَدَفَنُوهُ. وَأَمَّا الْإِمَامُ مَالِكٌ فَهُوَ تَابِعُ تَابِعِيٍّ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَبَا عَامِرٍ جَدَّ أَبِي مَالِكٍ صَحَابِيٌّ، وَأَنَسًا وَمَالِكًا أَبَاهُ تَابِعِيَّانِ، وَأَمَّا الْإِمَامُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - فَهُوَ تَابِعُ تَابِعِيٍّ، وَإِنَّمَا سَأَلَ مُحْرَزٌ أَنْ تَكُونَ تِلْكَ الْجُمْلَةُ عَلَى مَذْهَبِ الْإِمَامِ مَالِكٍ لِأَنَّهُ إمَامُ دَارِ الْهِجْرَةِ الَّذِي هَرِعَتْ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ سَائِرِ الْأَقْطَارِ، فَهُوَ إمَامُ الْأَئِمَّةِ فِي التَّحْقِيقِ، وَنَاصِرُ السُّنَّةِ بِالدَّقِيقِ، لَا يَنْصَرِفُ نَجْمُ السُّنَنِ إلَّا إلَيْهِ، وَلَا يُعَوَّلُ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ عِنْدَ الِاخْتِلَافِ إلَّا عَلَيْهِ، وَلِلْأَثَرِ الْمَشْهُورِ الصَّحِيحِ الْمَرْوِيِّ عَنْ الثِّقَاتِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «يُوشِكُ النَّاسُ أَنْ تَضْرِبَ أَكْبَادَ الْإِبِلِ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ فَلَا يَجِدُونَ أَعْلَمَ وَأَفْقَهَ مِنْ عَالِمِ الْمَدِينَةِ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «لَا تَنْقَطِعُ الدُّنْيَا حَتَّى يَكُونَ عَالِمٌ بِالْمَدِينَةِ تُضْرَبُ إلَيْهِ أَكْبَادُ الْإِبِلِ لَيْسَ عَلَى ظَهْرِ الدُّنْيَا أَعْلَمُ مِنْهُ» قَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: نَرَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْعَالِمِ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ تَرِدُ فِيهِ الْأَحَادِيثُ قَبْلَ وُجُودِهِ لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَالَ ذَلِكَ قَبْلَ وُجُودِ مَالِكٍ؟ فَالْجَوَابُ أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يُخْبِرُ بِبَعْضِ مُغَيِّبَاتٍ قَبْلَ وُجُودِهَا، وَالْعُلَمَاءُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - بَحَثُوا فَمَا وَجَدُوا صِدْقَ الْحَدِيثِ إلَّا عَلَى مَالِكٍ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ الَّذِي هَرِعَتْ إلَيْهِ النَّاسُ مِنْ غَالِبِ الْأَقْطَارِ، وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى عَظَمَةِ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَمَزِيدِ فَضْلِهِ أَنَّ ابْنَ هُرْمُزَ مِنْ شُيُوخِهِ وَقَالَ فِيهِ: مَالِكٌ أَعْلَمُ النَّاسِ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ عُيَيْنَةَ: مَالِكٌ سَيِّدُ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ الْأَوْزَاعِيُّ يَقُولُ فِيهِ: مَالِكٌ عَالِمُ الْعُلَمَاءِ أَوْ عَالِمُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمُفْتِي الْحَرَمَيْنِ، وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: مَالِكٌ أُسْتَاذِي وَعَنْهُ أَخَذْت الْعِلْمَ، وَمَالِكٌ مُعَلِّمِي وَمَا أَحَدٌ آمَنُ عَلَيَّ مِنْ مَالِكٍ وَجَعَلْته حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ، وَيَكْفِيك شَهَادَةُ هَؤُلَاءِ الْآئِمَةِ فِي بَيَانِ فَضْلِهِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ -. وَفِي سُؤَالِهِ مُحْرِزًا كِتَابَتَهَا عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ وَإِنْ كَانَ مَيِّتًا إشَارَةٌ إلَى جَوَازِ تَقْلِيدِ الْمَيِّتِ، وَلِمَا نَصَّ عَلَيْهِ ابْنُ أَبِي طَلْحَةَ مِنْ امْتِنَاعِ تَقْلِيدِ الْعَالِمِ مَعَ وُجُودِ الْأَعْلَمِ وَإِنْ كَانَ الْأَعْلَمُ مَيِّتًا لِلْأَمْنِ بِمَوْتِهِ عَنْ رُجُوعِهِ عَنْ قَوْلِهِ، وَمَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِالْمَدِينَةِ سَنَةَ تِسْعٍ وَسَبْعِينَ وَمِائَةٍ، وَتِلْمِيذُهُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ إدْرِيسَ الشَّافِعِيُّ نَزِيلُ مِصْرَ مَاتَ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ - بِهَا لِأَرْبَعِ سِنِينَ وَمِائَتَيْنِ، وَأَبُو حَنِيفَةَ النُّعْمَانُ بْنُ ثَابِتٍ نَزِيلُ بَغْدَادَ مَاتَ بِهَا لِخَمْسِينَ وَمِائَةٍ، وَفِي تَلْمَذَتِهِ لِمَالِكٍ نِزَاعٌ كَمَا فِي تَابِعِيَّتِهِ، وَأَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ نَزِيلُ