للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وَلَك مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلِمَ دِينَ اللَّهِ أَوْ دَعَا إلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ خَيْرَ الْقُلُوبِ: أَوْعَاهَا لِلْخَيْرِ، وَأَرْجَى الْقُلُوبِ لِلْخَيْرِ مَا لَمْ

ــ

[الفواكه الدواني]

وَفَاعِلُ يَسْبِقُ (مَا تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ) لِأَنَّهُ اسْمٌ مَوْصُولٌ بِمَعْنَى الَّذِي، وَجُمْلَةُ تُرْجَى لَهُمْ بَرَكَتُهُ صِلَةٌ، وَالرَّجَاءُ تَعَلُّقُ الْقَلْبِ بِمَطْمُوعٍ يَحْصُلُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ مَعَ الْأَخْذِ فِي أَسْبَابِ الْحُصُولِ، فَإِنْ تَجَرَّدَ عَنْ الْأَخْذِ فِي السَّبَبِ فَهُوَ طَمَعٌ وَهُوَ قَبِيحٌ وَالرَّجَاءُ حَسَنٌ، وَالضَّمِيرُ فِي " لَهُمْ " لِلْأَوْلَادِ وَفِي " بَرَكَتُهُ " لِمَا، وَالْبَرَكَةُ كَثْرَةُ الْخَيْرِ وَزِيَادَتُهُ.

(وَ) الَّذِي (تُحْمَدُ) أَيْ تُمْدَحُ (لَهُمْ عَاقِبَتُهُ) أَيْ آخِرَتُهُ لِأَنَّ عَاقِبَةَ كُلِّ شَيْءٍ آخِرَتُهُ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ ذَلِكَ بِالنَّظَرِ لِلدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، لِأَنَّهُ إذَا تَمَكَّنَ دِينُ الْإِسْلَامِ وَأَحْكَامُ الشَّرَائِعِ فِي قُلُوبِ الصِّبْيَانِ ثَبَتَ بَعْدَ بُلُوغِهِمْ، لِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَطْرُقُ الْقُلُوبَ زَمَنَ خُلُوِّهَا مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا وَهُمُومِهَا يَثْبُتُ فِيهَا، لِأَنَّ الْأَصْلَ اسْتِمْرَارُ مَا ثَبَتَ، وَلَا سِيَّمَا يَصِيرُ بَعْدَ الْبُلُوغِ سَهْلًا خَفِيفًا، فَيُحْمَدُونَ عَلَيْهَا فِي الدُّنْيَا لِاتِّصَافِهِمْ بِهَا وَفِي الْآخِرَةِ أَيْضًا لِمَا قَالَهُ عَبْدُ الْحَقِّ وَغَيْرُهُ: مِنْ أَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ مَنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ حَسَنَةٍ لَا يُبَدَّلُ بِهِ عِنْدَ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا يُبَدَّلُ بِمَنْ كَانَ عَلَى حَالَةٍ سَيِّئَةٍ، وَأَيْضًا الصَّبِيُّ يُكْتَبُ لَهُ الْحَسَنَاتُ وَثَوَابُهَا لَهُ عَلَى الْمُعْتَمَدِ كَمَا فِي خَبَرِ: أَلِهَذَا حَجٌّ؟ قَالَ: نَعَمْ وَلَك أَجْرٌ.

وَلَمَّا انْقَضَى السُّؤَالُ وَسَبَبُهُ ذَكَرَ الْجَوَابَ فَقَالَ: (فَأَجَبْتُك) الْفَاءُ رَابِطَةٌ لِلْجَوَابِ بِالسُّؤَالِ وَالْخِطَابُ لِمُحْرَزٍ السَّائِلِ، وَمَعْنَى أَجَبْتُك أَيْ أَسْعَفْتُك وَوَصَلْتُك (إلَى ذَلِكَ) الَّذِي قَصَدْته بِسُؤَالِك وَهُوَ الشُّرُوعُ فِي كَتْبِ الْجُمْلَةِ الْمُخْتَصَرَةِ، فَالْإِشَارَةُ عَائِدَةٌ عَلَى السُّؤَالِ بِمَعْنَى الْمَقْصُودِ مِنْهُ، ثُمَّ ذَكَرَ عِلَّةَ امْتِثَالِهِ لِلْإِتْيَانِ بِالْجَوَابِ بِقَوْلِهِ: (لَمَّا رَجَوْت لِنَفْسِي وَ) رَجَوْته (لَك) يَا مُحْرَزُ (فِيهِ) أَيْ فِي الْجَوَابِ، ثُمَّ بَيَّنَ مَا تَرَجَّاهُ بِقَوْلِهِ: (مِنْ ثَوَابِ مَنْ عَلِمَ) أَيْ فَهِمَ (دِينَ اللَّهِ) أَيْ دِينَ الْإِسْلَامِ (أَوْ دَعَا إلَيْهِ) أَيْ إلَى تَعْلِيمِ الدِّينِ الْإِسْلَامِيِّ، وَالثَّوَابُ مِقْدَارٌ مِنْ الْجَزَاءِ يَعْلَمُهُ اللَّهُ تَعَالَى وَيُعْطِيهِ لِعِبَادِهِ فِي نَظِيرِ أَعْمَالِهِمْ الْحَسَنَةِ الْمَقْبُولَةِ، وَالْمَعْنَى: إنَّمَا أَجَبْتُك لِابْتِغَاءِ حُصُولِ الثَّوَابِ لِي وَلَك الْمُتَرَتِّبِ عَلَى التَّعْلِيمِ وَعَلَى الدُّعَاءِ إلَيْهِ لَا لِذَاتِك وَلَا لِثَنَاءِ النَّاسِ عَلَيَّ وَلَا لِقَصْدِ دُنْيَا، وَلَا يُقَالُ: الْمُصَنِّفُ لَمْ يَعْلَمْ، لِأَنَّا نَقُولُ: التَّأْلِيفُ تَعْلِيمٌ بِحَسَبِ الْمَعْنَى بِاعْتِبَارِ أَنَّ كُلًّا مِنْ التَّأْلِيفِ وَالتَّعْلِيمِ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ، وَأَوْفَى كَلَامِ الْمُصَنِّفِ تَنْوِيعُهُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، فَالْمُعَلِّمُ الْمُصَنِّفُ وَالدَّاعِي مُحْرَزٌ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ بِمَعْنَى الْوَاوِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْ الْمُصَنِّفِ وَمُحْرَزٍ مُعَلِّمٌ وَدَاعٍ، فَالتَّأْلِيفُ تَعْلِيمٌ إذْ هُوَ فِعْلٌ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْعِلْمُ فَهُوَ دَاعٍ وَمُعَلِّمٌ وَمُحْرَزٌ كَذَلِكَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا} [فصلت: ٣٣] .

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَأَنْ - بِفَتْحِ اللَّامِ - يَهْدِيَ اللَّهُ بِك رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لَك مِنْ الدُّنْيَا وَمَا فِيهَا. وَمَنْ تَعَلَّمَ بَابًا مِنْ الْعِلْمِ أُعْطِيَ ثَوَابَ سَبْعِينَ نَبِيًّا» وَرَوَى صِدِّيقًا وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «يَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِلْمُجَاهِدِ وَالْعَابِدِ: اُدْخُلَا الْجَنَّةَ، فَتَقُولُ الْعُلَمَاءُ: يَا رَبَّنَا بِفَضْلِ عِلْمِنَا جَاهَدُوا وَعَبَدُوا فَمَا لَنَا عِنْدَك؟ فَيَقُولُ لَهُمْ: أَنْتُمْ عِنْدِي كَبَعْضِ مَلَائِكَتِي اشْفَعُوا لِعِبَادِي كَمَا كُنْتُمْ تُحْسِنُونَ أَدَبَهُمْ وَتُعَلِّمُونَهُمْ مَا لَا يَعْلَمُونَ» .

وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مِنْ دَاعٍ إلَى هُدًى إلَّا كَانَ لَهُ أَجْرُ مَنْ تَبِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَنْقُصَ مِنْ ثَوَابِهِمْ شَيْءٌ» .

وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ: كُنَّا إذَا وَدَّعْنَا مَالِكًا يَقُولُ لَنَا: اتَّقُوا اللَّهَ وَافْشُوَا الْعِلْمَ بَيْنَكُمْ وَلَا تَكْتُمُوهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «مَنْ أَتَى الْمَسْجِدَ لِيَتَعَلَّمَ عِلْمًا أَوْ يُعَلِّمَهُ رَجَعَ غَانِمًا كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَنْ جَاءَهُ الْمَوْتُ وَهُوَ يَطْلُبُ الْعِلْمَ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّبِيِّينَ إلَّا دَرَجَةٌ وَاحِدَةٌ» .

وَحَدِيثُ «سَبْعَةٌ يَجْرِي لِلْعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ فِي قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْمًا» إلَخْ. رَوَاهُ الْبَزَّارُ وَأَبُو نُعَيْمٍ وَالْبَيْهَقِيُّ.

وَرَوَى ابْنُ مَاجَهْ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «أَفْضَلُ الصَّدَقَةِ أَنْ يَتَعَلَّمَ الْمَرْءُ الْمُسْلِمُ عِلْمًا ثُمَّ يُعَلِّمُهُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» .

وَفِي الصَّحِيحَيْنِ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ: «لَا حَسَدَ إلَّا فِي اثْنَتَيْنِ: رَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ مَالًا فَسَلَّطَهُ عَلَى هَلَكَتِهِ فِي الْخَيْرِ، وَرَجُلٌ أَتَاهُ اللَّهُ الْحِكْمَةَ فَهُوَ يَقْضِي بِهَا وَيُعَلِّمُهَا» .

وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «فَضْلُ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ كَفَضْلِي عَلَى أَدْنَاكُمْ، وَإِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِي النَّاسِ الْخَيْرَ» رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَقَالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ فَهَذِهِ الْأَحَادِيثُ دَالَّةٌ عَلَى ثَوَابِ مَنْ عَلَّمَ وَدَعَا، وَأَطَلْنَا بِهَا تَرْغِيبًا فِي الِاشْتِغَالِ بِالْعِلْمِ لِأَنَّهُ بِهِ تُنَالُ السَّعَادَةُ فِي الدَّارَيْنِ.

تَنْبِيهَاتٌ الْأَوَّلُ: إجَابَةُ الْمُصَنِّفِ لِلسَّائِلِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ، كَمَا أَنَّ إجَابَةَ السُّؤَالِ عَنْ الْمَسْأَلَةِ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِحْبَابِ حَيْثُ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْإِجَابَةِ، وَأَمَّا إنْ لَمْ يَكُنْ غَيْرَ الْمَسْئُولِ فَتَكُونُ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً عَلَى الْمَسْئُولِ، لَكِنْ إنْ كَانَ مُجْتَهِدًا أَجَابَ بِاجْتِهَادِهِ، وَإِنْ كَانَ مُقَلِّدًا أَجَابَ بِمَا كَانَ يَعْلَمُهُ رَاجِحًا مِنْ مَذْهَبِ إمَامِهِ بِشُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَسْأَلَ السَّائِلَ عَمَّا يَجِبُ عَلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ أَوْ دُنْيَاهُ.

ثَانِيهَا: أَنْ يَخَافَ فَوَاتَ النَّازِلَةِ بِتَرْكِ الْجَوَابِ.

وَثَالِثِهَا: أَنْ يَكُونَ الْمَسْئُولُ بَالِغًا

<<  <  ج: ص:  >  >>