يَسْبِقْ الشَّرُّ إلَيْهِ وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ، وَرَغَّبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ: إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ؛ لِيَرْسَخَ فِيهَا، وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ؛ لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَإِلَّا لَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ الْإِجَابَةُ وَإِنْ انْفَرَدَ بِالْمَعْرِفَةِ، وَأَمَّا السَّائِلُ فَلَا يُشْتَرَطُ بُلُوغُهُ حَيْثُ كَانَ سُؤَالُهُ عَنْ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ وَخِيفَ فَوَاتُ النَّازِلَةِ، وَمِنْ الْمَعْلُومِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْإِجَابَةُ فَضْلًا عَنْ الْوُجُوبِ إلَّا لِمَنْ لَهُ عِلْمٌ بِالْمَسْئُولِ عَنْهُ فَلَا وَجْهَ لِعَدِّ الْعِلْمِ شَرْطًا.
الثَّانِي: إذَا كَانَتْ الْإِجَابَةُ وَاجِبَةً امْتَنَعَ أَخْذُ الْأَجْرِ عَلَيْهَا وَإِلَّا جَازَ لَهُ الْأَخْذُ عَلَيْهَا بِالرِّفْقِ، إلَّا أَنْ يَكُونَ لَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ مَا يَكْفِيهِ وَإِلَّا حَرُمَ عَلَيْهِ أَخْذُهَا.
الثَّالِثُ: اسْتَشْكَلَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ لِمَا رَجَوْت، مَعَ أَنَّ ثَوَابَ الْعَمَلِ مَعَ خُلُوصِ النِّيَّةِ مُحَقَّقٌ، وَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الْإِخْلَاصَ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِوُجُودِهِ، وَعَلَى فَرْضِ وُجُودِهِ الْقَبُولُ لِلْعَمَلِ غَيْرُ مَقْطُوعٍ بِهِ وَالْإِثَابَةُ مُتَرَتِّبَةٌ عَلَى الْقَبُولِ.
وَثَانِيهِمَا: احْتِمَالُ أَنَّ الْمُصَنِّفَ قَالَ ذَلِكَ عَلَى وَجْهِ التَّوَاضُعِ لِمَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ مَا يَنْبَغِي لِلْمُكَلَّفِ أَنْ يَنْسِبَ التَّقْصِيرَ إلَى نَفْسِهِ فِي طَاعَتِهِ وَجَمِيعِ تَقَلُّبَاتِهِ، وَإِنَّهُ لَمْ يَأْتِ بِذَلِكَ عَلَى الْحَقِيقَةِ وَيَخَافُ عَدَمَ الْقَبُولِ.
ثُمَّ شَرَعَ فِي التَّرْغِيبِ وَالْحَثِّ عَلَى تَعْلِيمِ تِلْكَ الْجُمْلَةِ لِمَنْ يَنْتَفِعُ بِهَا وَهُوَ مَنْ كَانَ قَلْبُهُ خَالِيًا مِنْ الْمَعَاصِي وَالشَّوَاغِلِ لَيَعْظُمَ الثَّوَابُ الْمُتَرَتِّبُ عَلَى تَعْلِيمِهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: (وَاعْلَمْ) أَيُّهَا النَّاظِرُ فِي تِلْكَ الْجُمْلَةِ (أَنَّ خَيْرَ) أَيْ أَحْسَنَ (الْقُلُوبِ) (أَوْعَاهَا) أَيْ أَحْفَظَهَا (لِلْخَيْرِ) ضِدُّ الشَّرِّ، فَلَيْسَ كَخَيْرِ السَّابِقِ لِأَنَّهُ أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ قُلُوبَ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ اشْتَرَكَتْ فِي حِفْظِ الْخَيْرِ وَأَحْسَنَهَا وَأَفْضَلَهَا أَشَدُّهَا حِفْظًا وَضَبْطًا لَهُ، فَإِنْ قِيلَ: أَوْعَى أَفْعَلُ تَفْضِيلٍ لَا يُبْنَى إلَّا مِنْ الَّذِي يُبْنَى مِنْهُ فِعْلُ التَّعَجُّبِ.
قَالَ فِي الْخُلَاصَةِ:
صُغْ مِنْ مَصُوغٍ مِنْهُ لِلتَّعَجُّبِ ... أَفْعَلَ لِلتَّفْضِيلِ وَأْبَ اللَّذِّ أَبِي
وَأَوْعَى زَائِدٌ عَلَى ثَلَاثَةٍ، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ أَوْعَى مِنْ وَعَى الْمُجَرَّدُ لَا مِنْ أَوْعَى (وَ) اعْلَمْ أَيْضًا أَنَّ (أَرْجَى الْقُلُوبِ) أَيْ أَقْرَبَهَا (لِلْخَيْرِ) أَيْ لِحِفْظِهِ وَقَبُولِهِ (مَا) أَيْ قَلْبٌ (لَمْ يَسْبِقْ) أَيْ يُسْرِعْ (الشَّرُّ إلَيْهِ) لِأَنَّ الْقَلْبَ الَّذِي لَمْ يَسْبِقْ الشَّرَّ إلَيْهِ الَّذِي هُوَ الْمَعْصِيَةُ يَقْبَلُ كُلَّ مَا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنْ الْخَيْرِ لِعَدَمِ الْمَانِعِ، وَإِذَا سَبَقَ الشَّرُّ إلَيْهِ عَظُمَتْ الْحِيلَةُ فِي إزَالَتِهِ فَيَنْدُرُ قَبُولُهُ لِلْخَيْرِ، وَلِذَلِكَ مَثَّلَ بَعْضُهُمْ الْقَلْبَ بِآنِيَةِ الْفَخَّارِ الْجَدِيدَةِ يُجْعَلُ فِيهَا الْقَطِرَانُ فَلَا تَزُولُ رَائِحَتُهُ مِنْهَا إلَّا بِتَعَبٍ وَمَشَقَّةٍ، وَمَا أَحْسَنَ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
أَتَانِي هَوَاهَا قَبْلَ أَنْ أَعْرِفَ الْهَوَى ... فَصَادَفَ قَلْبًا خَالِيًا فَتَحَكَّمَا
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: الشَّرُّ أَكْثَرُ وَالرُّكُونُ إلَيْهِ أَسْرَعُ وَلَا سِيَّمَا فِي حَالِ الصِّبَا لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الصِّبَا شُعْبَةٌ مِنْ الْجُنُونِ» وَالْقَابِلِيَّةُ فِي مُدَّةِ الصِّبَا لِلشَّرِّ أَعْظَمُ وَأَوْفَرُ مِنْ قَابِلِيَّةِ الْخَيْرِ لِإِعَانَةِ الْجَهْلِ وَالنَّفْسِ وَالشَّيْطَانِ عَلَى ذَلِكَ وَعَدَمِ الْعَقْلِ الْوَافِرِ، وَلِذَلِكَ يَجِبُ عَلَى الْوَلِيِّ أَنْ يُجَنِّبَ الصَّبِيَّ الْقُرَنَاءَ السُّوءَ فَإِنَّهُمْ أَشَدُّ ضَرَرًا عَلَى الشَّبَابِ، وَالطِّبَاعُ تَسْرِقُ وَلَا سِيَّمَا مِنْ الْمُصَاحِبِينَ وَلِذَلِكَ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْمَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلْ، وَالصَّاحِبُ كَالرُّقْعَةِ فِي الثَّوْبِ فَلْيَنْظُرْ بِمَاذَا يَرْقِعُ ثَوْبَهُ» .
تَنْبِيهٌ: قَدْ عَلِمْت أَنَّ الْمُصَنِّفَ إنَّمَا ذَكَرَ هَاتَيْنِ الْجُمْلَتَيْنِ حَثًّا لِلشَّيْخِ مُحْرَزٍ وَغَيْرِهِ عَلَى تَعْلِيمِهَا لِمَنْ يَقْبَلُ فَهْمَ مَعْنَاهَا بِسُرْعَةٍ، وَهُوَ مَنْ لَمْ يُخَالِطْ قَلْبُهُ مَا يَمْنَعُهُ مِنْ قَبُولِ الْخَيْرِ، لِأَنَّ تَعْلِيمَ مَنْ قَلْبُهُ مَشْغُولٌ بِمَا يَمْنَعُ لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَيَدُلُّ لِمَا ذَكَرْنَا مَا هُوَ كَالتَّعْلِيلِ لَهُ وَهُوَ قَوْلُهُ: (وَأَوْلَى) مُبْتَدَأٌ وَهُوَ بِمَعْنَى أَحَقَّ وَأَكْثَرَ ثَوَابًا.
(مَا عُنِيَ) بِصِيغَةِ الْمَبْنِيِّ لِلْمَفْعُولِ أَيْ اهْتَمَّ وَاشْتَغَلَ (بِهِ النَّاصِحُونَ) فَاعِلٌ بِمَعْنَى لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْمَبْنِيِّ لِلْفَاعِلِ وَإِنْ كَانَ بِصِيغَةِ الْمَفْعُولِ كَحُمَّ وَزُكِمَ، وَبِنَاؤُهُ لِلْفَاعِلِ لِغِيَّةٍ، وَالنَّاصِحُونَ الْخَالِصُونَ الْمُرْشِدُونَ لِلْخَيْرِ الْمُحَذِّرُونَ مِنْ الشَّرِّ.
(وَرُغِبَ) مَعْطُوفٌ عَلَى عُنِيَ أَيْ طُمِعَ (فِي) تَحْصِيلِ (أَجْرِهِ) أَيْ ثَوَابِهِ.
(الرَّاغِبُونَ) الطَّالِبُونَ وَخَبَرُ أَوْلَى الْوَاقِعُ مُبْتَدَأٌ
(إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ) وَإِرْشَادُهُمْ إلَى فَهْمِ قَوَاعِدِ الدِّينِ وَأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا خَصَّ الْأَوْلَادَ بِالذِّكْرِ وَإِنْ شَارَكَهُمْ غَيْرُهُمْ مِنْ جَهَلَةِ الْمُؤْمِنِينَ لِأَجْلِ قَوْلِهِ: (لِيَرْسَخَ) أَيْ يَثْبُتَ (فِيهَا) أَيْ الْقُلُوبِ وَتَنْقَادُ إلَيْهِ طَبَائِعُهُمْ وَيَنْطَاعُونَ إلَى الْعَمَلِ بِذَلِكَ لِخُلُوِّ قُلُوبِهِمْ مِنْ شَوَاغِلِ الدُّنْيَا.
(وَتَنْبِيهُهُمْ) بِالرَّفْعِ لِعَطْفِهِ عَلَى " إيصَالُ " أَيْ إيقَاظُهُمْ مِنْ سِنَةِ الْغَفْلَةِ وَإِيقَافُهُمْ (عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ) وَالْمَعَالِمُ جَمْعُ مَعْلَمٍ وَهُوَ فِي اللُّغَةِ الْأَثَرُ الَّذِي يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى الطَّرِيقِ، وَالْمُرَادُ بِهَا هُنَا قَوَاعِدُ الْإِسْلَامِ الْخَمْسِ بِدَلِيلِ إضَافَتِهَا إلَى الدِّيَانَةِ.
(وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى (حُدُودِ الشَّرِيعَةِ) وَمَعْنَى تَنْبِيهِهِمْ عَلَى حُدُودِ الشَّرِيعَةِ إيقَافُهُمْ عَلَيْهَا لِيَتَجَنَّبُوهَا، كَالزِّنَا وَالشِّرْكِ وَالشُّرْبِ وَأَكْلِ أَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ بِالْبَاطِلِ، ثُمَّ بَيَّنَ عِلَّةَ الْأَوْلَوِيَّةِ