للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الدِّينِ قُلُوبُهُمْ، وَتَعْمَلَ بِهِ جَوَارِحُهُمْ، فَإِنَّهُ رُوِيَ: أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ: يُطْفِئُ غَضَبَ اللَّهِ، وَأَنَّ تَعْلِيمَ

ــ

[الفواكه الدواني]

بِقَوْلِهِ: (لِيُرَاضُوا عَلَيْهَا) أَيْ إنَّمَا كَانَ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ مَا ذَكَرَ لِأَجْلِ أَنْ يَتَمَرَّنُوا عَلَى تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ وَيَسْتَأْنِسُوا بِهَا وَتَصِيرَ لَهُمْ كَالْأُمُورِ الطَّبِيعِيَّةِ الثَّابِتَةِ فِي قُلُوبِهِمْ تَنْقَادُ إلَيْهَا طَبَائِعُهُمْ، كَالْبَهِيمَةِ الَّتِي تُرَاضُ لِلتَّعْلِيمِ لِيَحْصُلَ مِنْهَا الْمُرَادُ وَإِنْ لَمْ تَتَعَلَّمْ كَانَتْ جَمُوحًا لَا تَنْقَادُ لَا خَيْرَ فِيهَا، فَيَنْبَغِي لِلْوَلِيِّ تَدْرِيبُ الصَّبِيِّ فِي جَمِيعِ أَحْوَالِهِ عَلَى مَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَدُنْيَاهُ وَيُجَنِّبُهُ مَا تُخْشَى عَاقِبَتُهُ، لِأَنَّ الطِّبَاعَ تَسْرِقُ، فَمُخَالِطُ الْعُلَمَاءِ يَكْتَسِبُ مِنْهُمْ وَمُخَالِطُ السُّفَهَاءِ كَذَلِكَ.

(وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعْرِفَةِ (مَا) أَيْ الَّذِي يَجِبُ (عَلَيْهِمْ) بَعْدَ بُلُوغِهِمْ (أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ) وَهُوَ عَقَائِدُ الْإِيمَانِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِذَاتِ الْبَارِي وَصِفَاتِهِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -، وَبِقَوْلِنَا بَعْدَ بُلُوغِهِمْ انْدَفَعَ الْإِشْكَالُ بِأَنَّ الصِّبْيَانَ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادٌ وَلَا عَمَلٌ.

(وَ) تَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَا (تَعْمَلُ) أَيْ تَشْتَغِلُ (بِهِ جَوَارِحُهُمْ) أَيْ أَعْضَاؤُهُمْ، وَيُقَالُ لَهَا الْكَوَاسِبُ لِأَنَّ بِهَا يَكْتَسِبُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَلِذَلِكَ تُسَمَّى الْكِلَابُ الْمُعَلَّمَةُ جَوَارِحَ.

قَالَ تَعَالَى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: ٤] لِأَنَّ صَاحِبَهَا يَكْتَسِبُ بِهَا، فَمَا مَوْصُولَةٌ كَمَا بَيَّنَّا مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَعَالِمَ وَلَيْسَتْ اسْتِفْهَامِيَّةً وَلَا نَافِيَةً، وَالْمَعْنَى: وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إلَخْ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ وَتَنْبِيهُهُمْ عَلَى مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَحُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَعَلَى اعْتِقَادِ الَّذِي يَجِبُ عَلَيْهِمْ اعْتِقَادُهُ بَعْدَ الْبُلُوغِ وَتَعْمَلُ بِهِ جَوَارِحُهُمْ مِنْ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ.

تَنْبِيهٌ: قَدْ ادَّعَى بَعْدَ تَكْرَارِ قَوْلِهِ: وَمَا عَلَيْهِمْ أَنْ تَعْتَقِدَهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ مَعَ مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ وَتَكْرَارِ مَا تَعْمَلُ بِهِ جَوَارِحُهُمْ مَعَ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ مَرَّ مَا يَنْدَفِعُ بِهِ التَّكْرَارُ مِنْ حَمْلِ مَعَالِمِ الدِّيَانَةِ عَلَى قَوَاعِدِ الْإِسْلَامِ، وَحَمْلِ مَا يَعْتَقِدُهُ مِنْ الدِّينِ قُلُوبُهُمْ عَلَى عَقَائِدِ الْإِيمَانِ، وَحَمْلِ حُدُودِ الشَّرِيعَةِ عَلَى الْمَنْهِيَّاتِ مِنْ نَحْوِ الزِّنَا وَالْقَتْلِ وَمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِمَا، وَمَا تَعْمَلُ بِهِ الْجَوَارِحُ عَلَى الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ وَمَا شَابَهَ ذَلِكَ، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَقُولُ الْمُصَنِّفُ: وَأَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إيصَالُ. . . إلَخْ مَعَ أَنَّ أَدَاءَ الْفَرَائِضِ أَوْلَى مِنْ إيصَالِ الْخَيْرِ إلَى قُلُوبِ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ الْمُرَادَ بَعْدَ أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، فَإِنْ قِيلَ: يُشْكِلُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «سُئِلَ: أَيُّ الْأَعْمَالِ أَفْضَلُ؟ : الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا» .

وَقَوْلُهُ فِي حَدِيثٍ آخَرَ: «بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» .

وَقَالَ فِي آخَرَ: «الْجِهَادُ» .

فَظَاهِرُ هَذِهِ الْأَحَادِيثِ التَّعَارُضُ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ كَالطَّبِيبِ، فَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ بِرِّ وَالِدَيْهِ بِأَنَّ الْأَفْضَلَ بِرُّهُمَا.

وَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَاةِ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا بِقَوْلِهِ: أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ الصَّلَاةُ فِي أَوَّلِ وَقْتِهَا.

وَأَجَابَ: مَنْ عَلِمَ مِنْهُ عَدَمَ مَحَبَّتِهِ الْجِهَادَ بِأَنَّ أَفْضَلَ الْأَعْمَالِ الْجِهَادُ، أَوْ أَنَّ مِنْ مَقْدِرَةٌ فِي كَلَامِهِ أَيْ وَمِنْ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ إلَخْ، وَيَبْقَى النَّظَرُ فِي الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ بِالِاشْتِغَالِ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَفْعَالِ الْخَيْرِ الْغَيْرِ الْوَاجِبَةِ لَمْ أَعْلَمْ مَنْ بَيَّنَهُ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الْأَوْلَى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَا اشْتَدَّ طَلَبُهُ وَكَثُرَ ثَوَابُهُ مِنْهَا.

ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا قَالَهُ مِنْ أَنَّ أَوْلَى مَا عُنِيَ بِهِ النَّاصِحُونَ وَرَغِبَ فِي أَجْرِهِ الرَّاغِبُونَ إيصَالُ الْخَيْرِ إلَخْ بِثَلَاثَةِ أَحَادِيثَ قَالَ: (فَإِنَّهُ) أَيْ الْحَالُ وَالشَّأْنُ لِأَنَّهُ لَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُ مَرْجِعٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ يُسَمَّى ضَمِيرَ شَأْنٍ وَتَكُونُ جُمْلَةُ مَا بَعْدَهُ مُفَسِّرَةً لَهُ، لِأَنَّ الْحَالَ وَالشَّأْنَ وَهِيَ جُمْلَةُ الْأَحَادِيثِ الْآتِيَةِ، وَالْفَاءُ هُنَا لِرَبْطِ الْجُمْلَةِ الَّتِي بَعْدَهَا بِمَا قَبْلَهَا رَبْطَ الْجَوَابِ بِالسُّؤَالِ لَا كَرَبْطِ الْعِلَّةِ بِالْمَعْلُولِ، لِأَنَّهُ لَا يَطَّرِدُ فِي الْأَحَادِيثِ وَالشُّرُوطِ بِالْمَشْرُوطِ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: لِمَ قُلْت كَذَا؟ قَالَهُ فِي الْجَوَابِ فَإِنَّهُ (رُوِيَ) قِيلَ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَقِيلَ عَنْ عَلِيٍّ مِنْ كَلَامِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -، وَلَكِنْ لَا يُدْرَكُ بِالْعَقْلِ فَهُوَ مَرْفُوعٌ مَعْنًى.

(أَنَّ تَعْلِيمَ الصِّغَارِ لِكِتَابِ اللَّهِ) أَيْ الْقُرْآنِ لِأَنَّهُ الْمَفْهُومُ عِنْدَ الْإِطْلَاقِ وَهُوَ أَشْرَفُ الْكُتُبِ السَّمَاوِيَّةِ حَتَّى جَاءَ فِي بَعْضِ الْأَحَادِيثِ: «مَنْ حَفِظَ الْقُرْآنَ أُعْطِيَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ» أَيْ عَلِمَ ثُلُثَ النُّبُوَّةِ.

(وَيُطْفِئُ) أَيْ يُخْمِدُ وَيُسْكِنُ (غَضَبَ اللَّهِ) وَتَفْسِيرُنَا الْإِطْفَاءَ بِالْإِخْمَادِ تَفْسِيرٌ لَهُ بِالْمَعْنَى اللُّغَوِيِّ، وَالْمُرَادُ هُنَا رَدُّ الْعَذَابِ الْوَاقِعِ بِالْغَضَبِ، وَرَدُّهُ إمَّا عَنْ آبَائِهِمْ أَوْ عَمَّنْ تَسَبَّبَ فِي تَعْلِيمِهِمْ أَوْ عَنْهُمْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ أَوْ عَنْ الْمَجْمُوعِ أَوْ يُرَدُّ الْعَذَابُ عُمُومًا، وَالْغَضَبُ فِي الْأَصْلِ هَيَجَانُ الدَّمِ وَغَلَيَانُهُ طَلَبًا لِلتَّشَفِّي، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ بِهَذَا الْمَعْنَى مُسْتَحِيلٌ فِي حَقِّهِ تَعَالَى، فَيَجِبُ صَرْفُهُ فِي حَقِّهِ تَعَالَى إلَى لَازِمِهِ.

فَإِذَا قِيلَ: غَضِبَ اللَّهُ عَلَى هَذَا فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ أَرَادَ الِانْتِقَامَ مِنْهُ أَوْ ذَمَّهُ وَهُمَا رَاجِعَانِ إلَى صِفَةِ الذَّاتِ، أَوْ بِمَعْنَى أَوْقَعَ بِهِ الِانْتِقَامَ فَيَرْجِعُ إلَى صِفَةِ الْفِعْلِ فَيَكُونُ الْغَضَبُ فِي كَلَامِهِ مِنْ بَابِ الْمَجَازِ الَّذِي عَلَاقَتُهُ اللَّازِمِيَّةُ وَالْمَلْزُومِيَّة، وَالْمُرَادُ الصِّغَارُ مِنْ أَوْلَادِ الْمُؤْمِنِينَ لِقَوْلِ مَالِكٍ: لَا تُعَلِّمْ أَوْلَادَ الْكُفَّارِ الْقُرْآنَ.

وَرُوِيَ أَيْضًا: «الصِّغَارُ فِي الْمَكَاتِبِ شُفَعَاءُ الْكِبَارِ ذَوِي الْمَعَائِبِ» .

وَرُوِيَ أَيْضًا: «إذَا اسْتَوْجَبَ النَّاسُ الْعِقَابَ نَظَرَ اللَّهُ لِلصِّغَارِ فِي الْمَكَاتِبِ فَيَدْفَعُهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>