بَابٌ فِي الْبُيُوعِ، وَمَا شَاكَلَ الْبُيُوعَ {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٥] وَكَانَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ فِي الدُّيُونِ إمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ وَإِمَّا أَنْ يُرْبَى لَهُ فِيهِ.
وَمِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ
ــ
[الفواكه الدواني]
(بَابٌ فِي) أَحْكَامِ (الْبُيُوعِ)
جَمْعُ بَيْعٍ مَصْدَرُ بَاعَ، وَيَتَنَوَّعُ إلَى صَحِيحٍ وَفَاسِدٍ، وَلِذَا صَحَّ جَمْعُهُ، بِخِلَافِ الْمُؤَكِّدِ لِعَامِلِهِ لَا يُثَنَّى، وَلَا يُجْمَعُ، وَحَقِيقَتُهُ فِي لُغَةِ قُرَيْشٍ وَاصْطَلَحَ عَلَيْهَا الْفُقَهَاءُ تَقْرِيبًا لِلْفَهْمِ: الْإِخْرَاجُ عَكْسُ اشْتَرَى، يُقَالُ: بَاعَ الشَّيْءَ إذَا أَخْرَجَهُ عَنْ مِلْكِهِ، وَاشْتَرَاهُ إذَا أَدْخَلَهُ فِي مِلْكِهِ، وَأَمَّا شَرَى فَيُسْتَعْمَلُ فِيهِمَا، وَمِنْ اسْتِعْمَالِهِ فِي الْإِخْرَاجِ قَوْله تَعَالَى: {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} [يوسف: ٢٠] ؛ لِأَنَّ الْمُرَادَ بَاعُوهُ، وَالضَّمِيرُ فِي بَاعُوهُ لِإِخْوَةِ يُوسُفَ الَّذِينَ أَخَذُوهُ مِنْ السَّيَّارَةِ بِادِّعَاءِ أَنَّهُ عَبْدُهُمْ وَأَبَقَ مِنْهُمْ ثُمَّ بَاعُوهُ لَهُمْ، وَأَمَّا حَقِيقَتُهُ فِي الِاصْطِلَاحِ فَقَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: الْبَيْعُ الْأَعَمُّ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ عَلَى غَيْرِ مَنَافِعَ وَلَا مُتْعَةِ لَذَّةٍ، فَيَخْرُجُ الْعَقْدُ عَلَى الْمَنَافِعِ وَالنِّكَاحِ، وَيَدْخُلُ هِبَةُ الثَّوَابِ وَالصَّرْفِ وَالْمُرَاطَلَةِ وَالسَّلَمِ، وَكَذَلِكَ قَالَ: وَالْغَالِبُ عُرْفًا أَخَصُّ مِنْهُ بِزِيَادَةِ ذُو مُكَايَسَةِ أَحَدِ عِوَضَيْهِ غَيْرِ ذَهَبٍ وَلَا فِضَّةٍ مُعَيَّنٍ غَيْرِ الْعَيْنِ فِيهِ لِتَخْرُجَ الْأَرْبَعَةُ الْمَذْكُورَةُ الدَّاخِلَةُ فِي الْأَعَمِّ؛ لِأَنَّ الْهِبَةَ لِلثَّوَابِ لَا مُكَايَسَةَ أَيْ لَا مُغَالَبَةَ فِيهَا، وَالصَّرْفُ وَالْمُرَاطَلَةُ وَالْمُبَادَلَةُ الْعِوَضَانِ فِيهَا مِنْ الْعَيْنِ وَالسَّلَمِ الْمُعَيَّنِ فِيهِ الْعَيْنُ، وَهِيَ رَأْسُ الْمَالِ، وَأَمَّا غَيْرُ رَأْسِ الْمَالِ، وَهُوَ الْمُسَلَّمُ فِيهِ فَإِنَّهُ فِي الذِّمَّةِ، وَمَعْنَى كَوْنِ رَأْسِ الْمَالِ مُعَيَّنًا أَنَّهُ لَيْسَ فِي الذِّمَّةِ، وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ تَعْبِيرَ ابْنِ عَرَفَةَ بِالْعَيْنِ فِي رَأْسِ الْمَالِ مَبْنِيٌّ عَلَى الْغَالِبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَكُونُ رَأْسُ الْمَالِ حَيَوَانًا أَوْ عَرَضًا، وَيَنْقَسِمُ الْبَيْعُ الْأَعَمُّ إلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ: مُسَاوَمَةٍ، وَمُزَايَدَةٍ، وَهُمَا جَائِزَانِ اتِّفَاقًا، وَبَيْعِ مُرَابَحَةٍ، وَهُوَ جَائِزٌ جَوَازًا مَرْجُوحًا لِاحْتِيَاجِهِ إلَى الصِّدْقِ الْمَتِينِ، وَبَيْعِ اسْتِئْمَانٍ وَاسْتِرْسَالٍ، وَحَقِيقَةِ بَيْعِ الْمُسَاوَمَةِ أَنْ يَتَرَاضَى الشَّخْصَانِ عَلَى ثَمَنٍ وَلَا تَقْبَلُ زِيَادَةً بَعْدَهُ، وَلَوْ تَضَمَّنَ غَبْنًا، وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الْمُزَايَدَةِ أَنْ يُطْلِقَ الرَّجُلُ سِلْعَتَهُ فِي يَدِ الدَّلَّالِ لِلنِّدَاءِ عَلَيْهَا، فَمَنْ أَعْطَى فِيهَا ثَمَنًا لَزِمَهُ إنْ رَضِيَ مَالِكُهَا وَلَهُ أَنْ لَا يَرْضَى وَيَطْلُبَ الزِّيَادَةَ، وَهَذَا هُوَ الْمَعْرُوفُ بَيْنَ النَّاسِ الْيَوْمَ، وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَحْسَنَ؛ لِأَنَّ هَذَا يُورِثُ الضَّغَائِنَ فِي الْقُلُوبِ.
وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الْمُرَابَحَةِ أَنْ يَشْتَرِيَ الرَّجُلُ سِلْعَةً بِثَمَنٍ وَيَبِيعَهَا بِأَكْثَرَ مِنْهُ عَلَى وَجْهٍ مَخْصُوصٍ، وَحَقِيقَةُ بَيْعِ الِاسْتِئْمَانِ، وَيُقَالُ لَهُ أَيْضًا الِاسْتِرْسَالُ أَنْ يَصْرِفَ أَحَدُ الشَّخْصَيْنِ قَدْرَ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ مِنْ ثَمَنٍ أَوْ مُثَمَّنٍ لِعِلْمِ صَاحِبِهِ بِجَهْلِ الصَّارِفِ بِهِ أَيْ بِقَدْرِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ بِأَنْ يَقُولَ الْجَاهِلُ لِلْعَالِمِ: اشْتَرِ مِنِّي كَمَا تَشْتَرِي مِنْ النَّاسِ، أَوْ بِعْنِي كَمَا تَبِيعُ النَّاسُ، وَحُكْمُهُ الْجَوَازُ عَلَى طَرِيقِ الْأَكْثَرِ لِثُبُوتِ الْخِيَارِ لِلْجَاهِلِ إذَا كَذَبَ عَلَيْهِ الْعَالِمُ بِأَنْ غَرَّهُ، وَمُقَابِلُ الْأَكْثَرِ سَمَاعُ عِيسَى بْنِ الْقَاسِمِ لَا يَصِحُّ، وَيُفْسَخُ إنْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ قَائِمًا، وَإِنْ فَاتَ رَدَّ مِثْلَ الْمِثْلِيِّ، وَقِيمَةَ الْمُقَوَّمِ (وَ) فِي بَيَانِ أَحْكَامِ (مَا شَاكَلَ) أَيْ شَابَهُ (الْبُيُوعَ) مِنْ سَائِرِ الْعُقُودِ، كَالشَّرِكَةِ وَالتَّوْلِيَةِ وَالْإِقَالَةِ وَالْقِرَاضِ وَالْمُسَاقَاةِ وَالْإِجَارَةِ، وَمَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ.
وَلَمَّا فَرَغَ مِنْ التَّرْجَمَةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ أَحْكَامِ مَا تَرْجَمَ لَهُ مُبْتَدِئًا بِحُكْمِ الْبَيْعِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْجَوَازُ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى -: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ} [البقرة: ٢٧٥] بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْآيَةَ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي لَا تَخْصِيصَ فِيهِ، إنْ قُلْنَا: إنَّ الْفَاسِدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ بَيْعٌ إلَّا عَلَى جِهَةِ الْمَجَازِ أَوْ مِنْ قَبِيلِ الْعَامِّ الَّذِي دَخَلَهُ التَّخَصُّصُ فَهُوَ عَلَى عُمُومِهِ، إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى خُرُوجِهِ، وَهَذَا مَذْهَبُ أَكْثَرِ الْفُقَهَاءِ.
وَالْمَعْنَى عَلَى هَذَا: وَأَحَلَّ اللَّهُ كُلَّ بَيْعٍ إلَّا مَا قَامَ الدَّلِيلُ عَلَى فَسَادِهِ وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ، كَمَنْ اُضْطُرَّ لِشِرَاءِ طَعَامٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَالنَّدْبُ كَمَنْ أَقْسَمَ عَلَى إنْسَانٍ أَنْ يَبِيعَ لَهُ سِلْعَةً لَا ضَرَرَ عَلَيْهِ فِي بَيْعِهَا؛ لِأَنَّ إبْرَارَ الْقَسَمِ مَنْدُوبٌ، وَالْكَرَاهَةُ كَبَيْعِ الْهِرِّ وَالسَّبُعِ؛ لِأَخْذِ جِلْدِهِ، وَالتَّحْرِيمُ كَبَيْعِ الْمَنْهِيِّ عَنْ بَيْعِهِ نَحْوِ الْكَلْبِ، فَتَلَخَّصَ أَنَّ الْبَيْعَ تَعْرِضُ لَهُ الْأَحْكَامُ الْخَمْسَةُ، وَكَمَا دَلَّ عَلَى حِلِّهِ الْكِتَابُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute