النَّسِيئَةِ بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ يَدًا بِيَدٍ مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ الذَّهَبُ بِالذَّهَبِ وَلَا يَجُوزُ فِضَّةٌ بِفِضَّةٍ وَلَا ذَهَبٌ بِذَهَبٍ إلَّا مِثْلًا.
ــ
[الفواكه الدواني]
دَلَّتْ عَلَيْهِ السُّنَّةُ أَيْضًا كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ الْكَسْبِ بَيْعٌ مَبْرُورٌ وَعَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ» وَالْبَيْعُ الْمَبْرُورُ الَّذِي لَمْ يَعْصِ صَاحِبُهُ بِهِ وَلَا فِيهِ وَلَا مَعَهُ، وَمِنْهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا قَطُّ خَيْرًا لَهُ مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمَلِ يَدِهِ» وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَحَادِيثِ.
(تَنْبِيهٌ) لَمْ يَتَعَرَّضْ الْمُصَنِّفُ هُنَا لِأَرْكَانِ الْبَيْعِ وَلَا لِشُرُوطِ عَاقِدِهِ، وَلَا الْمَقْعُودِ عَلَيْهِ، وَأَرْكَانُهُ ثَلَاثَةٌ: الْعَاقِدُ وَالْمَعْقُودُ عَلَيْهِ وَالصِّيغَةُ، وَشَرْطُ صِحَّةِ عَقْدِ الْعَاقِدِ مِنْ بَائِعٍ أَوْ مُشْتَرٍ التَّمْيِيزُ بِأَنْ يَفْهَمَ السُّؤَالَ وَيَرُدَّ جَوَابَهُ، وَلَوْ صَبِيًّا أَوْ عَبْدًا، وَشَرْطُ اللُّزُومِ التَّكْلِيفُ بِمَعْنَى الرُّشْدِ وَالطَّوْعِ، فَلَا يَلْزَمُ بَيْعُ الصَّبِيِّ وَلَا السَّفِيهِ وَلَا الْمُكْرَهِ إكْرَاهًا حَرَامًا، وَإِنْ لَزِمَ مِنْ جِهَةِ الْمُشْتَرِي حَيْثُ كَانَ رَشِيدًا.
قَالَ خَلِيلٌ: وَشَرْطُ عَاقِدِهِ تَمْيِيزٌ، وَلُزُومُهُ تَكْلِيفٌ لَا إنْ أُجْبِرَ عَلَيْهِ جَبْرًا حَرَامًا وَرَدَّ عَلَيْهِ بِلَا ثَمَنٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ إسْلَامُ الْعَاقِدِ، وَلَوْ كَانَ الْمَعْقُودُ عَلَيْهِ مُسْلِمًا أَوْ مُصْحَفًا، بَلْ يَقَعُ الْعَقْدُ لَازِمًا وَيُجْبَرُ غَيْرُ الْمُسْلِمِ عَلَى إخْرَاجِهِ مِنْ تَحْتِ يَدِهِ، وَإِنَّمَا الْإِسْلَامُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ إدَامَةِ الْمِلْكِ، وَشَرْطُ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ ثَمَنًا أَوْ مُثَمَّنًا الطَّهَارَةُ الْأَصْلِيَّةُ، وَالْقُدْرَةُ عَلَى تَسْلِيمِهِ، وَالْعِلْمُ بِالْمَعْقُودِ عَلَيْهِ كَمِّيَّةً وَكَيْفِيَّةً حَيْثُ وَقَعَ الْعَقْدُ عَلَى اللُّزُومِ، وَإِلَّا جَازَ وَلَوْ لَمْ يَذْكُرْ جِنْسَهُ وَلَا نَوْعَهُ، وَعَدَمُ النَّهْيِ عَنْ بَيْعِهِ، وَأَنْ يَكُونَ مُنْتَفَعًا بِهِ وَلَوْ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.
وَالرُّكْنُ الثَّالِثُ الصِّيغَةُ، وَيَكْفِي فِيهَا كُلُّ مَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا وَلَوْ مُعَاطَاةً، خِلَافًا لِمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ فِيمَا يَأْتِي: وَالْبَيْعُ يَنْعَقِدُ بِالْكَلَامِ، إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالْكَلَامِ كُلَّمَا يُفْهَمُ مَعَهُ الْمُرَادُ وَلَوْ إشَارَةً؛ لِأَنَّ الْكَلَامَ يُطْلَقُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْقَوْلِ وَعَلَى كُلِّ مَا يَحْصُلُ بِهِ الْإِفَادَةُ مِنْ إشَارَةٍ وَكِتَابَةٍ وَغَيْرِهِمَا، وَهَذَا هُوَ الْمَطْلُوبُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ.
قَالَ خَلِيلٌ: يَنْعَقِدُ الْبَيْعُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى الرِّضَا، وَإِنْ بِمُعَاطَاةٍ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الصِّيغَةِ تَقَدُّمُ إيجَابٍ عَلَى قَبُولٍ، وَسَيَأْتِي بَعْدَ الْكَلَامِ عَلَى الرِّبَا فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ الْإِشَارَةُ إلَى مَا يُفْهَمُ مِنْهُ بَعْضُ مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ (وَحَرَّمَ) اللَّهُ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - (الرِّبَا) بِالْقَصْرِ بِقِسْمَيْهِ النَّسَاءُ بِالْمَدِّ، وَهُوَ التَّأْخِيرُ وَالْفَضْلُ، وَهُوَ الزِّيَادَةُ، وَفِي مُسْلِمٍ: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - آكِلَ الرِّبَا، وَمُوكِلَهُ وَكَاتِبَهُ وَشَاهِدَهُ» فَمَنْ اسْتَحَلَّ الرِّبَا كَفَرَ فَإِنْ لَمْ يَتُبْ قُتِلَ، وَكَانَ مَنْ بَاعَ بِالرِّبَا فَهُوَ فَاسِقٌ يُؤَدَّبُ بَعْدَ فَسْخِ بَيْعِهِ، وَيَلْزَمُهُ رَأْسُ الْمَالِ بَعْدَ الْفَوَاتِ، وَمَنْ قَبَضَ أَكْثَرَ مِنْ رَأْسِ مَالِهِ رَدَّهُ لِرَبِّهِ إنْ عَرَفَهُ، وَإِلَّا تَصَدَّقَ بِهِ، وَإِنْ أَسْلَمَ كَافِرٌ فَهُوَ لَهُ إنْ قَبَضَهُ قَبْلَ إسْلَامِهِ، وَإِلَّا فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَخْذُ مَا زَادَ عَلَى رَأْسِ الْمَالِ بَلْ يَسْقُطُ عَمَّنْ هُوَ عَلَيْهِ.
(وَكَانَ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ) ، وَهِيَ مَا قَبْلَ الْإِسْلَامِ (فِي الدُّيُونِ) إذَا تَمَّ أَجَلُ الدَّيْنِ يَقُولُ لَهُ مَنْ لَهُ التَّكَلُّمُ فِي شَأْنِهِ (إمَّا أَنْ يَقْضِيَهُ) مَنْ هُوَ عَلَيْهِ لِرَبِّهِ (وَإِمَّا أَنْ يُرْبِيَ) أَيْ يَزِيدَ (لَهُ فِيهِ) وَيُؤَخِّرَهُ وَلَا شَكَّ فِي حُرْمَةِ هَذَا سَوَاءٌ كَانَتْ الزِّيَادَةُ فِي الْقَدْرِ أَوْ الصِّفَةِ. مِثَالُ الزِّيَادَةِ فِي الْقَدْرِ أَنْ يُؤَخِّرَهُ عَنْ الْأَجَلِ الْأَوَّلِ وَيَدْفَعَ لَهُ عَنْ الْعَشَرَةِ خَمْسَةَ عَشَرَ. وَمِثَالُ الثَّانِي أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ بَدَلَ عَدَدِ الْكِلَابِ رِيَالَاتٍ، أَوْ عَنْ الْمُحَمَّدِيَّةِ بَنَادِقَةً، فَإِنْ وَقَعَ وَأَخَّرَ لَمْ يَسْتَحِقَّ صَاحِبُ الدَّيْنِ إلَّا رَأْسَ مَالِهِ.
وَفِي مَعْنَى الزِّيَادَةِ فِي الْحُرْمَةِ أَنْ يَتَّفِقَ مَعَهُ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْأَجَلِ عَلَى أَنْ يُؤَخِّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ رَهْنًا أَوْ يُقِيمَ لَهُ حَمْلًا؛ لِمَا يَلْزَمُ عَلَيْهِ مِنْ سَلَفٍ جَرَّ نَفْعًا، وَمِنْ رِبَا الْجَاهِلِيَّةِ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرِ مُخَالِفٍ لِجِنْسِ مَا فِي الذِّمَّةِ، وَإِنْ سَارَتْ قِيمَتُهُ حِينَ التَّأْخِيرِ قَدْرَ الدَّيْنِ بِأَنْ كَانَ الدَّيْنُ عَيْنًا وَحَلَّ أَجَلُهَا فَأَخَّرَهُ بِهَا أَجَلًا ثَانِيًا عَلَى أَنْ يَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا طَعَامًا أَوْ عَرَضًا. وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ يَحْرُمُ فَسْخُ مَا فِي الذِّمَّةِ فِي مُؤَخَّرٍ وَلَوْ مُعَيَّنًا يَتَأَخَّرُ قَبْضُهُ كَغَائِبٍ أَوْ مُوَاضَعَةٍ أَوْ مَنَافِعِ عَيْنٍ. وَأَمَّا لَوْ أَخَّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ فَلَا حُرْمَةَ، وَمِنْ بَابِ أَوْلَى لَوْ تَرَكَ لَهُ بَعْضَ الْحَقِّ وَأَخَّرَهُ أَجَلًا ثَانِيًا.
ثُمَّ شَرَعَ فِي بَيَانِ رِبَا الْفَضْلِ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ) كَخَطِيئَةٍ فَهُوَ بِالْمَدِّ وَالْهَمْزِ الزِّيَادَةُ وَيُقَالُ لَهَا رِبًا أَيْ زِيَادَةُ الْفَضْلِ (بَيْعُ الْفِضَّةِ بِالْفِضَّةِ) حَالَ كَوْنِهِ (يَدًا بِيَدٍ) أَيْ مُنَاجَزَةً وَحَالَ كَوْنِ الْمَعْقُودِ عَلَيْهِ (مُتَفَاضِلًا وَكَذَلِكَ) أَيْ مِنْ الرِّبَا فِي غَيْرِ النَّسِيئَةِ لَا يَجُوزُ بَيْعُ (الذَّهَبِ بِالذَّهَبِ) مُتَفَاضِلًا يَدًا بِيَدٍ سَوَاءٌ كَانَا مَسْكُوكَيْنِ أَوْ مَصُوغَيْنِ أَوْ مُخْتَلِفَيْنِ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا تَبِيعُوا الذَّهَبَ بِالذَّهَبِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا الْوَرِقَ بِالْوَرِقِ إلَّا مِثْلًا بِمِثْلٍ، وَلَا تُشِفُّوا بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ، وَلَا تَبِيعُوا مِنْهَا غَائِبًا بِنَاجِزٍ؛ لِمَا فِي التَّأْخِيرِ مِنْ رِبَا النَّسَاءِ» ، وَمَعْنَى لَا تُشِفُّوا بِضَمِّ التَّاءِ وَكَسْرِ الشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَالْفَاءِ الْمُشَدَّدَةِ لَا تُفَضِّلُوا.
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ وَالْحَدِيثِ حُرْمَةُ الْمُفَاضَلَةِ فِي بَيْعِ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا وَلَوْ قَلَّتْ الزِّيَادَةُ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إذْ قَدْ أَجَازُوا الزِّيَادَةَ الْيَسِيرَةَ فِي ثَلَاثِ مَسَائِلَ: الْأُولَى الْمُبَادَلَةُ. وَهِيَ بَيْعُ الْعَيْنِ بِمِثْلِهَا عَدَدًا فَإِنَّهَا تَجُوزُ بِشُرُوطٍ أَشَارَ لَهَا خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَجَازَتْ مُبَادَلَةُ الْقَلِيلِ الْمَعْدُودِ مِنْ الدَّرَاهِمِ أَوْ الدَّنَانِيرِ بِأَنْ تَكُونَ سِتَّةً فَأَقَلَّ، وَأَنْ تَكُونَ الزِّيَادَةُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ السُّدُسَ فَأَقَلَّ، وَأَنْ تَقَعَ تِلْكَ الْمُعَاقَدَةُ عَلَى وَجْهِ الْمُبَادَلَةِ، وَأَنْ يُقْصَدَ بِالزِّيَادَةِ الْمَعْرُوفُ. وَالثَّانِيَةُ: الْمُسَافِرُ تَكُونُ مَعَهُ الْعَيْنُ غَيْرَ مَسْكُوكَةٍ، وَلَا تَرُوجُ مَعَهُ فِي الْمَحَلِّ الَّذِي يُسَافِرُ إلَيْهِ، فَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُهَا لِلسَّكَّاكِ لِيَدْفَعَ لَهُ بَدَلَهَا مَسْكُوكًا، وَيَجُوزُ لَهُ دَفْعُ أُجْرَةِ السِّكَّةِ، وَإِنْ لَزِمَ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ؛ لِأَنَّ الْأُجْرَةَ زَائِدَةٌ وَعَلَى كَوْنِهَا