للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قُتِلَ وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ.

وَمَنْ سَبَّهُ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ أَوْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ قُتِلَ

ــ

[الفواكه الدواني]

أَرْكَانِهَا كَرُكُوعِهَا أَوْ سُجُودِهَا أَوْ نَحْوِهِمَا مِمَّا أُجْمِعَ عَلَى وُجُوبِهِ أَوْ جَحَدَ وُجُوبَ الصَّوْمِ أَوْ الزَّكَاةِ أَوْ الْحَجِّ أَوْ الطَّهَارَةِ أَوْ شَكَّ فِي وُجُوبِ شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ.

(فَهُوَ كَالْمُرْتَدِّ) الْقَائِلِ بِأَنَّ الْعَالَمَ قَدِيمٌ بِالذَّاتِ وَقَالَ بِأَنَّهُ بَاقٍ، أَوْ جَحَدَ الْبَعْثَ وَالنُّشُورَ أَوْ الْقِيَامَةَ أَوْ اسْتَحَلَّ كَالشُّرْبِ وَالزِّنَا وَنَحْوِ ذَلِكَ مِنْ الْمُكَفِّرَاتِ.

(يُسْتَتَابُ) أَيْ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَوْ نَائِبِهِ أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ التَّوْبَةَ (ثَلَاثًا) أَيْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ صِحَاحٍ مِنْ غَيْرِ جُوعٍ وَلَا عَطَشٍ وَلَا مُعَاقَبَةٍ.

(فَإِنْ لَمْ يَتُبْ) بِإِسْلَامِهِ (قُتِلَ) كُفْرًا لَا حَدًّا، وَأَمَّا لَوْ تَابَ بِرُجُوعِهِ إلَى الْإِسْلَامِ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ عَنْهُ إثْمُ مَا اقْتَرَفَ مِنْ الِارْتِدَادِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] كَمَا يَسْقُطُ عَنْهُ بِالرُّجُوعِ إلَى الْإِسْلَامِ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنْ صَلَاةٍ أَوْ صَوْمٍ أَوْ زَكَاةٍ أَوْ نَذْرٍ أَوْ عِتْقٍ، بِخِلَافِ الْحَجِّ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِعْلُهُ وَلَوْ كَانَ فَعَلَهُ قَبْلَ الرِّدَّةِ لِأَنَّ كُلَّ الزَّمَانِ ظَرْفٌ لَهُ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي أَحْكَامِ السَّابِّ لِنَبِيٍّ أَوْ مَلَكٍ، وَذَكَرَهُ بَعْدَ الْمُرْتَدِّ لِأَنَّهُ يُشَارِكُهُ فِي وُجُوبِ قَتْلِهِ وَإِنْ كَانَ قَتْلُهُ حَدًّا وَقَتْلُ الْمُرْتَدِّ كُفْرًا، وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ، وَالْمُرْتَدُّ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، فَالسَّابُّ شَبِيهٌ بِالزِّنْدِيقِ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَبَّ) أَيْ شَتَمَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ الْمُكَلَّفِينَ (سَيِّدَنَا) وَنَبِيَّنَا مُحَمَّدًا (رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) أَوْ نَبِيًّا غَيْرَهُ مُجْمَعًا عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكًا مُجْمَعًا عَلَى مَلَكِيَّتِهِ أَوْ لَعَنَهُ أَوْ عَابَهُ أَوْ قَذَفَهُ أَوْ اسْتَخَفَّ بِحَقِّهِ أَوْ غَيَّرَ صِفَتَهُ أَوْ أَلْحَقَ بِهِ نَقْصًا فِي دِينِهِ أَوْ بَدَنِهِ أَوْ خَصْلَتِهِ أَوْ غَضَّ مِنْ مَرْتَبَتِهِ أَوْ وُفُورِ عِلْمِهِ أَوْ زُهْدِهِ، أَوْ أَضَافَ لَهُ مَا لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ أَوْ نَسَبَ إلَيْهِ مَا لَا يَلِيقُ بِهِ عَلَى طَرِيقِ الذَّمِّ أَوْ قِيلَ لَهُ بِحَقِّ رَسُولِ اللَّهِ فَلَعَنَ وَقَالَ أَرَدْت الْعَقْرَبَ، وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ.

(قُتِلَ) حَدًّا لِأَنَّ قَتْلَهُ لِازْدِرَائِهِ بِحَقِّ النَّبِيِّ أَوْ الْمَلَكِ، لَا لِأَنَّهُ كَافِرٌ حَيْثُ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ أَنْكَرَ مَا شُهِدَ بِهِ عَلَيْهِ وَيُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِهِ.

(وَلَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ) سَوَاءٌ تَابَ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ أَوْ جَاءَ تَائِبًا مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ قَبْلَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ حَدٌّ وَجَبَ، وَالْحُدُودُ تَجِبُ إقَامَتُهَا بَعْدَ ثُبُوتِ مُوجِبِهَا وَلَوْ تَابَ الْمُسْتَحِقُّ لَهَا، كَالزَّانِي وَالشَّارِبِ وَالْقَاتِلِ وَالسَّارِقِ سِوَى الْمُحَارَبِ فَإِنَّ حَدَّ الْحِرَابَةِ يَسْقُطُ عَنْهُ بِالْإِتْيَانِ لِلْإِمَامِ طَائِعًا أَوْ تَرْكِهِ مَا هُوَ عَلَيْهِ، فَالْحَاصِلُ أَنَّ السَّابَّ شَبِيهٌ بِالزِّنْدِيقِ وَالزِّنْدِيقُ لَا تُعْرَفُ لَهُ تَوْبَةٌ بَعْدَ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ.

فَإِنْ قِيلَ: مُقْتَضَى جَعْلِهِ كَالزِّنْدِيقِ أَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُ إذَا جَاءَ تَائِبًا قَبْلَ ظُهُورِنَا عَلَيْهِ مَعَ أَنَّهَا لَا تُقْبَلُ مُطْلَقًا، فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: السَّبُّ تَعَلَّقَ بِهِ حَقُّ آدَمِيٍّ، وَالزِّنْدِيقُ الْحَقُّ مُتَعَلِّقٌ بِاَللَّهِ، وَحَقُّ الْآدَمِيِّ يُشَاحَحُ فِيهِ، وَأَيْضًا الْأَصْلُ فِي الزَّوَاجِرِ عَدَمُ سُقُوطِهَا بِالتَّوْبَةِ.

وَأَمَّا لَوْ أَعْلَنَ بِالسَّبِّ فَإِنَّهُ يُقْتَلُ كُفْرًا كَالزِّنْدِيقِ أَيْضًا وَيُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِهِ، وَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ ذَمَّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِجَهْلٍ أَوْ سُكْرٍ أَوْ لِأَجْلِ تَهَوُّرٍ فِي الْكَلَامِ، وَلَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى سَبْقِ اللِّسَانِ وَلَا دَعْوَى سَهْوٍ وَلَا نِسْيَانٍ.

وَفَائِدَةُ كَوْنِ الْقَتْلِ حَدًّا الْحُكْمُ بِبَقَائِهِ عَلَى الْإِسْلَامِ فِي إرْثِهِ وَالصَّلَاةُ عَلَيْهِ، وَفَائِدَةُ قَتْلِهِ كُفْرًا عَدَمُ ذَلِكَ فَلَا يُغَسَّلُ وَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا تُسْتَرُ عَوْرَتُهُ وَيُوَارَى كَمَا يُفْعَلُ بِالْكَافِرِ.

وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَغَيْرِهِ أَنَّهُ يُسْتَعْجَلُ بِقَتْلِ الزِّنْدِيقِ وَالسَّابِّ وَلَوْ كَانَ قَتْلُهُمَا كُفْرًا، لِأَنَّ التَّأْخِيرَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُرْتَدِّ بِغَيْرِ السَّبِّ وَالزَّنْدَقَةِ.

(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: تَكَلَّمَ الْمُصَنِّفُ عَلَى حُكْمِ سَابِّ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَسَكَتَ عَنْ سَابِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالْمَشْهُورُ فِيهِ أَنَّهُ يُقْتَلُ إذَا لَمْ يَتُبْ، وَاخْتُلِفَ فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ وَالرَّاجِحُ قَبُولُ تَوْبَتِهِ، فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ مَنْ سَبَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَمَنْ سَبَّ الْبَارِيَ جَرَى فِي قَبُولِ تَوْبَتِهِ خِلَافٌ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَشَرٌ وَالْبَشَرُ مِنْ حَيْثُ كَوْنُهُ بَشَرًا يَقْبَلُ الْعَيْبَ وَتَلْحَقُهُ الْمَعَرَّةُ بِالْأَوْصَافِ الْقَبِيحَةِ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُنَزَّهٌ عَنْ سَائِرِ الْعُيُوبِ بِشَهَادَةِ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: ١١] فَلَا يَلْحَقُهُ نَقْصٌ وَلَا مَعَرَّةٌ، فَشُدِّدَ عَلَيْهِ لِئَلَّا يَسْبِقَ إلَى فَهْمِ السَّامِعِ حَقِيقَةُ الْكَلَامِ، وَأَيْضًا حَقُّ الْآدَمِيِّ يُشَاحَحُ فِيهِ، وَالْبَارِي سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى شَأْنُهُ الْمُسَامَحَةُ وَالْعَفْوُ عَمَّنْ عَصَاهُ هَذَا إيضَاحُهُ.

الثَّانِي: قَيَّدْنَا الْكَلَامَ بِالْمُجْمَعِ عَلَى نُبُوَّتِهِ أَوْ مَلَكَتِهِ لِلِاحْتِرَازِ عَنْ الْمُخْتَلَفِ فِي نُبُوَّتِهِ كَالْخَضِرِ وَلُقْمَانَ، وَمَلَكِيَّتِهِ كَهَارُوتَ وَمَارُوتَ فَلَا يُقْتَلُ مَنْ سَبَّهُمَا وَإِنَّمَا يُشَدَّدُ فِي أَدَبِهِ،

وَلَمَّا قَدَّمَ أَنَّ السَّابَّ الْمُسْلِمَ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَا تُقْبَلُ لَهُ تَوْبَةٌ وَلَوْ جَاءَ إلَيْنَا تَائِبًا قَبْلَ ظُهُورِنَا عَلَيْهِ شَرَعَ فِي السَّابِّ الذِّمِّيِّ بِقَوْلِهِ: (وَمَنْ سَبَّهُ) أَيْ سَيِّدَ الْخَلْقِ عَلَى الْإِطْلَاقِ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - (مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ) كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى (بِغَيْرِ مَا) أَيْ الَّذِي (بِهِ كُفْرٌ) نَحْوُ: بَخِيلٌ أَوْ غَيْرُ عَالِمٍ، أَوْ نَحْوُ: ذَلِكَ مِنْ الْأَلْفَاظِ الْمُزْرِيَةِ.

(أَوْ سَبَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِغَيْرِ مَا بِهِ كُفْرٌ) نَحْوُ: شَحِيحٌ أَوْ عَاجِزٌ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ مِنْ الْمُسْتَحِيلِ عَلَى اللَّهِ، وَجَوَابُ مَنْ الشَّرْطِيَّةِ (قُتِلَ) أَيْ السَّابُّ لِنَبِيِّنَا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَوْ اللَّهِ تَعَالَى (إلَّا أَنْ يُسْلِمَ) فَيَسْقُطُ قَتْلُهُ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال: ٣٨] وَالْفَرْقُ بَيْنَ الْكَافِرِ تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ وَالْمُؤْمِنِ السَّابِّ لَا تُقْبَلُ تَوْبَتُهُ، لِلنَّبِيِّ قَوْلًا وَاحِدًا، وَعَلَى أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ فِي سَبِّ اللَّهِ أَنَّ قَتْلَ الْمُسْلِمِ حَدٌّ وَهُوَ زِنْدِيقٌ لَا تُعْرَفُ لَهُ تَوْبَةٌ، وَالْكَافِرُ مُسْتَمِرٌّ عَلَى كُفْرِهِ فَيُعْتَبَرُ

<<  <  ج: ص:  >  >>