وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ وَلَا يَمِينَ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ أَوْ الظِّنَّةُ كَذَلِكَ قَضَى حُكَّامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ
ــ
[الفواكه الدواني]
وُجُودِ مَنْ يَقُومُ بِهِ لِمَا فِيهِ مِنْ الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، فَقَدْ قَالَ ابْنُ رُشْدٍ وَغَيْرُ وَاحِدٍ: الْحُكْمُ بَيْنَ النَّاسِ بِالْعَدْلِ مِنْ أَفْضَلِ أَعْمَالِ الْبِرِّ وَأَعْلَى دَرَجَاتِ الْأَجْرِ، وَالْجَوْرُ فِيهِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ أَكْبَرِ الْكَبَائِرِ، وَهُوَ مِحْنَةٌ مَنْ دَخَلَ فِيهِ اُبْتُلِيَ بِعَظِيمٍ لِتَعْرِيضِهِ نَفْسَهُ لِلْهَلَاكِ، إذْ التَّخَلُّصُ فِيهِ عُسْرٌ لِخَبَرِ النَّسَائِيّ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْقُضَاةُ ثَلَاثَةٌ: اثْنَانِ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ، رَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ فَقَضَى بِهِ فَهُوَ فِي الْجَنَّةِ، وَرَجُلٌ عَرَفَ الْحَقَّ وَلَمْ يَقْضِ بِهِ وَجَارَ فِي الْحُكْمِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَرَجُلٌ لَمْ يَعْرِفْ الْحَقَّ وَحَكَمَ لِلنَّاسِ بِالْجَهْلِ فَهُوَ فِي النَّارِ» . وَالْوُجُوبُ الْعَيْنِيُّ عَلَى الْمُنْفَرِدِ بِشُرُوطِهِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَلَزِمَ الْمُتَعَيِّنَ أَوْ الْخَائِفَ فِتْنَةً - إنْ لَمْ يَتَوَلَّ - أَوْ ضَيَاعَ الْحَقِّ الْقَبُولُ وَالطَّلَبُ وَيُجْبَرُ عَلَيْهِ وَلَوْ بِالضَّرْبِ.
وَالْمُحَرَّمُ كَوْنُهُ جَاهِلًا أَوْ قَاصِدًا بِهِ تَحْصِيلَ الدُّنْيَا مِنْ الْأَخْصَامِ أَوْ جَائِرًا، وَالْمُسْتَحَبُّ كَتَوْلِيَتِهِ لِإِشْهَارِ عِلْمِهِ، وَالْمُبَاحُ كَقَصْدِ الِارْتِزَاقِ بِهِ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ لِفَقْرِهِ وَكَثْرَةِ عِيَالِهِ أَوْ دَفْعِ ضَرَرٍ بِهِ عَنْ نَفْسِهِ مِنْ غَيْرِ ارْتِكَابِ مَا يُوجِبُ تَحْرِيمَهُ أَوْ كَرَاهَتَهُ.
وَالْمَكْرُوهُ كَتَوْلِيَتِهِ لِقَصْدِ تَحْصِيلِ الْجَاهِ وَتَصْيِيرِهِ عَظِيمًا فِي أَعْيُنِ النَّاسِ، وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَوْ قِيلَ بِحُرْمَةِ هَذَا لِمَا بَعْدَ هَذَا.
قَالَ بَعْضٌ: وَأَقُولُ الْقِيلَ مَبْنِيٌّ عَلَى فَهْمِ أَنَّ مَعْنَى صَيْرُورَتِهِ مُعَظَّمًا بِحَيْثُ يَصِيرُ ذَا جَاهٍ وَأَنَفَةٍ عَلَى غَيْرِهِ، وَمُحَالٌ أَنَّ صَاحِبَ هَذَا الْقِيلِ يَقْصِدُ هَذَا، وَإِنَّمَا الَّذِي يُرِيدُهُ بِصَيْرُورَتِهِ مُعَظَّمًا أَنْ يَصِيرَ مُحْتَرَمًا بِحَيْثُ لَا يُعَارَضُ فِي أَمْرٍ يَفْعَلُهُ.
الثَّالِثُ: لَمْ يُبَيِّنْ مَنْ يُنَصِّبُ الْقَاضِيَ وَاَلَّذِي يُنَصِّبُهُ الْإِمَامُ الْأَعْظَمُ أَوْ نَائِبُهُ إنْ كَانَ عَدْلًا، وَإِنْ لَمْ يُوجَدْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا فَجَمَاعَةُ الْمُسْلِمِينَ هُمْ الَّذِي يُقِيمُونَهُ كَمَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ إقَامَةُ السُّلْطَانِ، ثُمَّ إنْ كَانَتْ وِلَايَةُ الْإِمَامِ لِلْقَاضِي بِالْمُشَافَهَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَبُولِ عَلَى الْفَوْرِ، وَإِنْ كَانَتْ بِإِرْسَالٍ فَلَا يُشْتَرَطُ فَوْرِيَّةُ الْقَبُولِ، وَيَكْفِي فِي الْوِلَايَةِ مَعْرِفَةُ خَطِّ الْمُوَلَّى دُونَ إشْهَادٍ وَيَكْفِي فِيهَا الشُّيُوعُ، فَلَوْ حَكَمَ مِنْ غَيْرِ شُيُوعٍ مَضَى، وَيَجُوزُ لِلْقَاضِي أَنْ يَسْتَنِيبَ غَيْرَهُ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَلَوْ كَانَ زَمَنُ الِاسْتِنَابَةِ خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، بِخِلَافِ الْحَاكِمِ لَا يَجُوزُ أَنْ يَحْكُمَ إلَّا إذَا كَانَ جَالِسًا وَقْتَ الْحُكْمِ فِي مَحَلِّ وِلَايَتِهِ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ
وَصَدَّرَ الْبَابَ بِحَدِيثٍ صَحِيحٍ وَهُوَ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «وَالْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي» وَهُوَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: مَنْ عُرِّيَتْ دَعْوَاهُ عَنْ مُرَجِّحٍ غَيْرِ شَهَادَةٍ.
(وَالْيَمِينُ عَلَى) الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ: (مَنْ أَنْكَرَ) وَعَرَّفَهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِقَوْلِهِ: وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ اقْتَرَنَتْ دَعْوَاهُ بِهِ أَيْ بِالْمُرَجِّحِ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ الْمُدَّعِي مَنْ تَجَرَّدَ قَوْلُهُ عَنْ مُصَدَّقٍ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ مَنْ تَرَجَّحَ قَوْلُهُ بِمَعْهُودٍ أَوْ أَصْلٍ، أَوْ تَقُولُ: الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي يَقُولُ كَانَ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي يَقُولُ لَمْ يَكُنْ، أَوْ تَقُولُ: الْمُدَّعِي هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ لَتُرِكَ عَلَى سُكُوتِهِ، وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ هُوَ الَّذِي لَوْ سَكَتَ لَمْ يُتْرَكْ عَلَى سُكُوتِهِ، قَالَ ابْنُ الْمُسَيِّبِ: مَنْ عَرَفَ الْفَرْقَ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَقَدْ عَرَفَ وَجْهَ الْقَضَاءِ، وَإِنَّمَا جُعِلَتْ الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي رِفْقًا بِالْأُمَّةِ الْمَفْهُومُ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَوْ يُعْطَى النَّاسُ بِدَعْوَاهُمْ لَادَّعَى رِجَالٌ أَمْوَالَ قَوْمٍ وَدِمَاءَهُمْ، لَكِنَّ الْبَيِّنَةَ عَلَى مَنْ ادَّعَى وَالْيَمِينَ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» .
(تَنْبِيهٌ) ظَاهِرُ الْحَدِيثِ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ أَنَّ الْبَيِّنَةَ تُطْلَبُ مِنْ الْمُدَّعِي فِي كُلِّ مَوْضِعٍ، كَمَا أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ عَلَى كُلِّ مُنْكِرٍ وَلَيْسَ كَذَلِكَ، وَلِذَا قَالَ ابْنُ نَاجِي: كَلَامُ الْمُصَنِّفِ أَيْ قَوْلُهُ: الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي إلَخْ مَخْصُوصٌ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: التَّدْمِيَةُ فَإِنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَفْتَقِرُ فِيهَا إلَى بَيِّنَةٍ عِنْدَ مَالِكٍ وَاللَّيْثِ بَلْ يَكْفِي اللَّوَثُ وَكُلُّ الْعُلَمَاءِ عَلَى خِلَافِهِ، وَقَدَّمْنَا الْجَوَابَ عَنْ مَالِكٍ فِيمَا سَبَقَ.
وَثَانِيهِمَا: الْمَغْصُوبَةُ تَحْمِلُ بِبَيِّنَةٍ وَتَدَّعِي أَنَّ الْغَاصِبَ لَهَا وَطِئَهَا فَلَا تُكَلَّفُ بَيِّنَةً وَلَهَا الصَّدَاقُ كَامِلًا بِمُجَرَّدِ دَعْوَاهَا الْوَطْءَ اتِّفَاقًا، وَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامُهُ مِنْ تَوَجُّهِ الْيَمِينِ عَلَى الْمُنْكِرِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ مُقَيَّدٍ بِالدَّعْوَى فِي الَّذِي يَثْبُتُ بِالشَّاهِدِ وَالْيَمِينِ، لَا فِيمَا لَا يَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ الْمُشَارِ إلَيْهِ بِقَوْلِ خَلِيلٍ: وَكُلُّ دَعْوَى لَا تَثْبُتُ إلَّا بِعَدْلَيْنِ فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِهَا، فَلَوْ ادَّعَتْ امْرَأَةٌ عَلَى زَوْجِهَا الطَّلَاقَ أَوْ عَبْدٌ عَلَى سَيِّدِهِ أَنَّهُ أَعْتَقَهُ أَوْ رَجُلٌ عَلَى امْرَأَةٍ أَنَّهُ تَزَوَّجَهَا فَلَا يَمِينَ بِمُجَرَّدِ تِلْكَ الدَّعْوَى.
وَمَفْهُومُ تِلْكَ الْقَاعِدَةِ فِيهِ تَفْصِيلٌ أَشَارَ إلَيْهِ خَلِيلٌ بِقَوْلِهِ: وَحَلَفَ بِشَاهِدٍ فِي طَلَاقٍ وَعِتْقٍ لَا نِكَاحٍ فَلَا يَمِينَ عَلَى الْمَرْأَةِ وَلَا عَلَى وَلِيِّهَا، فَإِنْ حَلَفَ الزَّوْجُ فِي الطَّلَاقِ وَالسَّيِّدُ فِي الْعِتْقِ رُدَّتْ شَهَادَةُ الشَّاهِدِ وَإِنْ نَكَلَ حُبِسَ وَإِنْ طَالَ دَيْنٌ فِيهِمَا، وَالْفَرْقُ بَيْنَ النِّكَاحِ وَغَيْرِهِ شِدَّةُ ظُهُورِ النِّكَاحِ دُونَ الْعِتْقِ وَالطَّلَاقِ، وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ قَوْلِهِ: وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ تَوَجَّهَ الْيَمِينُ عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ الْإِنْكَارِ دَفَعَهُ بِقَوْلِهِ: (وَلَا) أَيْ وَلَكِنْ لَا يَطْلُبُ مِنْ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ (يَمِينَ) بِمُجَرَّدِ إنْكَارِهِ بَلْ (حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ) بِضَمِّ الْخَاءِ وَهِيَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: حَالَةٌ تُرْفَعُ بَعْدَ تَوَجُّهِ الدَّعْوَى لَا لِسُوءِ عَرْضِهِمَا فَيَخْرُجُ السَّرِقَةُ وَالْغَصْبُ، فَإِنَّ الدَّعْوَى تَتَوَجَّهُ فِيهِمَا عَلَى الْمُتَّهَمِ لِسُوءِ عَرْضِهِمَا؛ لِأَنَّ اتِّهَامَهُمَا يَقُومُ مَقَامَ الْخُلْطَةِ.
قَالَ خَلِيلٌ: إنْ خَالَطَهُ بِدَيْنٍ أَوْ تَكَرُّرِ بَيْعٍ وَإِنْ بِشَهَادَةِ امْرَأَةٍ لَا بَيِّنَةٍ جُرِحَتْ، وَلَمَّا كَانَ هُنَاكَ مَسَائِلُ ثَمَانِيَةٌ تَتَوَجَّهُ فِيهَا الْيَمِينُ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى خُلْطَةِ الْمُشَارِ إلَيْهَا بِقَوْلِ خَلِيلٍ: إلَّا الصَّانِعَ وَالْمُتَّهَمَ وَالضَّيْفَ وَإِلَّا فِي دَعْوَى فِي شَيْءٍ مُعَيَّنٍ الْوَدِيعَةِ