وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ.
وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ لَمْ يُقْضَ لِلطَّالِبِ حَتَّى يَحْلِفَ فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً وَالْيَمِينُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ وَيَحْلِفُ قَائِمًا وَعِنْدَ مِنْبَرِ
ــ
[الفواكه الدواني]
عَلَى أَهْلِهَا وَالْمُسَافِرِ عَلَى رُفْقَتِهِ وَدَعْوَى مَرِيضٍ أَوْ بَائِعٍ عَلَى حَاضِرِ الْمُزَايَدَةِ. (أَوْ الظِّنَّةُ) بِكَسْرِ الظَّاءِ أَيْ التُّهْمَةُ وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَزِيدَ أَوْ يَتَعَذَّرَ إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ لِيَشْمَلَ نَحْوَ الْمُسَافِرِ؛ لِأَنَّ التُّهْمَةَ لَيْسَتْ فِي جَمِيعِ الثَّمَانِ مَسَائِلَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الْيَمِينَ لَا تَتَوَجَّهُ عَلَى الْمُنْكِرِ حَتَّى تَثْبُتَ الْخُلْطَةُ بَيْنَ الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعَى عَلَيْهِ، أَوْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مُتَّهَمًا فِي نَفْسِهِ أَوْ فِي حَالَةٍ يَتَعَذَّرُ عَلَيْهِ فِيهَا إثْبَاتُ الْخُلْطَةِ كَمَا فِي بَقِيَّةِ الْمَسَائِلِ الثَّمَانِ الْمَذْكُورَةِ عَنْ خَلِيلٍ، وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ مِنْ اشْتِرَاطِ الْخُلْطَةِ أَوْ الظِّنَّةِ بِأَنْ يَكُونَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْغَصْبِ أَوْ السَّرِقَةِ هُوَ الْمَشْهُورُ وَعَلَيْهِ مَالِكٌ وَعَامَّةُ أَصْحَابِهِ، وَاَلَّذِي لِابْنِ نَافِعٍ أَنَّهَا لَا تُشْتَرَطُ وَنَفَاهَا فِي الْمَبْسُوطِ وَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ بِمِصْرَ، قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ الْقُضَاةِ عِنْدَنَا، وَقَالَ غَيْرُهُ: وَعَلَيْهِ عَمَلُ أَهْلِ الشَّامِ إلَى الْآنَ فَإِنَّهُمْ يُوَجِّهُونَ الْيَمِينَ عَلَى الْمُنْكِرِ عِنْدَ عَدَمِ بَيِّنَةِ الْمُدَّعِي وَلَا يَسْأَلُونَ عَنْ خُلْطَةٍ وَلَا تُهْمَةٍ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى مَا ذَكَرَهُ مِنْ تَوَقُّفِ الْيَمِينِ عَلَى الْخُلْطَةِ أَوْ الظِّنَّةِ بِقَوْلِهِ: (كَذَلِكَ قَضَى حُكَّامُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ) الْمُنَوَّرَةِ عَلَى سَاكِنِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ كَعَلِيٍّ وَعُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْفُقَهَاءِ السَّبْعَةِ، وَإِجْمَاعُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ حُجَّةٌ عِنْدَ مَالِكٍ فَيُخَصَّصُ بِهِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ» .
وَأَيْضًا ذَكَرَ الشَّاذِلِيُّ عَنْ سَحْنُونٍ أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنَّهُ قَالَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ إذَا كَانَ بَيْنَهُمَا خُلْطَةٌ» . فَلَعَلَّ اسْتِشْهَادَهُ بِقَضَاءِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ لِمَجْمُوعِ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي الْخُلْطَةَ وَالظِّنَّةَ فَلَا يُنَافِي ثُبُوتَ الْخُلْطَةِ فِي الْحَدَثِ، ثُمَّ أَكَّدَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَقَدْ قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -) لِأَنَّهُ مِنْ الْأَئِمَّةِ الرَّاشِدِينَ الْمُقْتَدَى بِهِمْ فِي أَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ، فَفِعْلُهُ وَقَوْلُهُ كُلٌّ مِنْهُمَا حُجَّةٌ وَمَقُولَةٌ.
(تَحْدُثُ لِلنَّاسِ أَقْضِيَةٌ) جَمْعُ قَضَاءٍ أَيْ أَحْكَامٌ يَسْتَنْبِطُهَا كُلُّ مُجْتَهِدٍ بِحَسَبِ اجْتِهَادِهِ. (بِقَدْرِ مَا أَحْدَثُوا مِنْ الْفُجُورِ) أَيْ الْكَذِبِ وَالْمَيْلِ عَنْ الْحَقِّ، وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمُجْتَهِدَ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُجَدِّدَ أَحْكَامًا لَمْ تَكُنْ مَعْهُودَةً فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ بِقَدْرِ مَا يُحْدِثُهُ النَّاسُ مِنْ الْأُمُورِ الْخَارِجَةِ عَنْ الشَّرْعِ، وَلَكِنْ لَوْ وَقَعَتْ فِي زَمَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَوْ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَحَكَمُوا فِيهَا بِذَلِكَ نَحْوُ الْقِيَامِ الْمَطْلُوبِ فِي زَمَانِنَا لِتَرَتُّبِ الضَّرَرِ عَلَى تَرْكِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُعْهَدْ سَبَبُهُ فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ، وَنَحْوُ الْحَلِفِ عَلَى الْمُصْحَفِ أَوْ عَلَى مَقَامِ شَيْخٍ أَوْ التَّحْلِيفِ بِالطَّلَاقِ فِي حَقِّ مَنْ لَمْ يَقِفْ عَلَى الْيَمِينِ بِاَللَّهِ، فَإِنَّ سَبَبَ الْقِيَامِ وَسَبَبَ التَّحْلِيفِ بِالطَّلَاقِ أَوْ غَيْرِهِ لَمْ يُعْهَدْ فِي زَمَنِ الْمُصْطَفَى وَلَا غَيْرِهِ مِنْ الصَّحَابَةِ، وَلَوْ وَقَعَ فِي زَمَنِهِمْ لَحَكَمُوا فِيهِ بِمِثْلِ مَا ذَكَرْنَا.
وَهَذِهِ الْأَحْكَامُ الْمُتَجَدِّدَةُ بِتَجَدُّدِ أَسْبَابِهَا لَيْسَتْ خَارِجَةً عَنْ الشَّرْعِ بَلْ هِيَ مِنْهُ؛ لِأَنَّ قَوَاعِدَ الشَّرْعِ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ عَدَمَ وُقُوعِهَا فِي زَمَانِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَزَمَنِ الصَّحَابَةِ لِعَدَمِ حُصُولِ أَسْبَابِهَا، وَتَأْخِيرُ الْحُكْمِ لِتَأْخِيرِ سَبَبِهِ لَا يَقْتَضِي خُرُوجَهُ عَنْ الشَّرْعِ، كَمَا لَوْ أَنْزَلَ اللَّهُ حُكْمًا فِي اللِّوَاطِ مِنْ رَجْمٍ أَوْ غَيْرِهِ مِنْ أَنْوَاعِ الْعُقُوبَاتِ وَلَمْ يُوجَدْ فِي زَمَانِ الْمُصْطَفَى - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَلَا غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ وَوُجِدَ فِي زَمَانِنَا فَإِنَّا نَحْكُمُ عَلَيْهِ بِتِلْكَ الْعُقُوبَةِ، وَلَا يُعَدُّ هَذَا تَجْدِيدًا لِشَرِيعَةٍ، وَيَجِبُ تَقْيِيدُ هَذَا كُلِّهِ بِأَنْ لَا يَلْزَمَ عَلَيْهِ إبَاحَةُ مُحَرَّمٍ وَلَا تَرْكُ وَاجِبٍ، فَلَوْ كَانَ الْمَلِكُ لَا يَرْضَى مِنَّا إلَّا بِشُرْبِ الْخَمْرِ أَوْ بِالزِّنَا أَوْ غَيْرِهَا مِنْ الْمَعَاصِي، أَوْ لَا يَرْضَى مِنَّا إلَّا بِتَرْكِ الصَّلَاةِ أَوْ صَوْمِ رَمَضَانَ لَمْ يَحِلَّ لَنَا أَنَّ نُوَافِقَهُ وَكَذَلِكَ غَيْرُهُ، إذْ لَا طَاعَةَ لِمَخْلُوقٍ فِي مَعْصِيَةِ الْخَالِقِ، وَلَا الْحُكْمَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّ هَذَا لَوْ وَقَعَ فِي زَمَنِ الصَّحَابَةِ لَمَا جَازَ لِأَحَدٍ الْحُكْمُ بِهِ، هَذَا مُلَخَّصُ كَلَامِ الْقَرَافِيِّ فِي فُرُوقِهِ، وَظَاهِرُ كَلَامِ الْمُؤَلِّفِ أَوْ صَرِيحُهُ أَنَّ مَا قَالَهُ عُمَرُ لَيْسَ بِحَدِيثٍ، وَذَكَرَ بَعْضُ أَصْحَابِ سَحْنُونٍ أَنَّهُ حَدِيثٌ
ثُمَّ قَالَ كَالْمُسْتَأْنِفِ لِجَوَابِ سُؤَالٍ نَشَأَ مِنْ الْكَلَامِ السَّابِقِ تَقْدِيرُهُ: فَإِنْ نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَهَلْ يَغْرَمُ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ أَوْ بَعْدَ حَلِفِ الْمُدَّعِي؟ (وَإِذَا نَكَلَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ) يَعْنِي امْتَنَعَ مِنْ الْحَلِفِ (لَمْ يُقْضَ) أَيْ لَمْ يُحْكَمْ (لِلطَّالِبِ) الَّذِي هُوَ الْمُدَّعِي عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمَا ادَّعَاهُ بَلْ (حَتَّى يَحْلِفَ) أَيْ الطَّالِبُ (فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً) أَيْ عِلْمًا بِأَنْ يَقُولَ: أَتَحَقَّقُ أَنَّ لِي عِنْدَك دِينَارًا أَوْ ثَوْبًا صِفَتُهُ كَذَا وَهِيَ دَعْوَى التَّحْقِيقِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وَحَقُّهُ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حُقِّقَ، وَمَفْهُومُ إنْ حُقِّقَ الَّذِي هُوَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً أَنَّهُ لَوْ لَمْ يُحَقِّقْ بِأَنْ كَانَ مُوجِبُ الْيَمِينَ التُّهْمَةَ كَأَنْ يَتَّهِمَ شَخْصًا بِسَرِقَةِ مَالٍ مَثَلًا فَإِنَّهُ لَا يَحْلِفُ الطَّالِبُ بَلْ يَغْرَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ؛ لِأَنَّ الْمَشْهُورَ بِوَجْهٍ يَمِينُ التُّهْمَةِ بِمُجَرَّدِ الدَّعْوَى وَلَا يَحْتَاجُ إلَى إثْبَاتِ خُلْطَةٍ، وَيَغْرَمُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِمُجَرَّدِ نُكُولِهِ، وَلَا تُرَدُّ الْيَمِينُ عَلَى الطَّالِبِ إلَّا فِي دَعْوَى التَّحْقِيقِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ نَكَلَ فِي مَالٍ وَحَقُّهُ اسْتَحَقَّ بِهِ بِيَمِينٍ إنْ حُقِّقَ، وَحَاصِلُ الْمَعْنَى: أَنَّ الدَّعْوَى إذَا كَانَتْ دَعْوَى تَحْقِيقٍ لَا يَسْتَحِقُّ الطَّالِبُ إلَّا بَعْدَ حَلِفِهِ وَهِيَ كَلَامُ الْمُصَنِّفِ، وَأَمَّا لَوْ كَانَتْ دَعْوَى اتِّهَامٍ فَإِنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِمُجَرَّدِ نُكُولِ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ تُعْرَفُ بِمَسْأَلَةِ رَدِّ الْيَمِينِ مَعَ النُّكُولِ