الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي رُبُعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ وَفِي غَيْرِ الْمَدِينَةِ يَحْلِفُ فِي ذَلِكَ فِي الْجَامِعِ وَمَوْضِعٍ يُعَظَّمُ مِنْهُ
وَيَحْلِفُ الْكَافِرُ بِاَللَّهِ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَالْأَصْلُ فِيهَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْقَسَامَةِ لِحُوَيِّصَةَ وَمُحَيِّصَةَ وَعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَهْلٍ حِينَ قُتِلَ أَخُوهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَهْلٍ بِخَيْبَرَ: «أَتَحْلِفُونَ وَتَسْتَحِقُّونَ دَمَ صَاحِبِكُمْ؟ قَالُوا: لَمْ نَحْضُرْ فَكَيْفَ نَحْلِفُ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: فَتُبَرِّئُكُمْ يَهُودُ بِخَمْسِينَ يَمِينًا، قَالُوا: لَمْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ» . فَهَذَا رَدُّ الْيَمِينِ، وَأَشَارَ بِقَوْلِهِ فِيمَا يَدَّعِي فِيهِ مَعْرِفَةً إلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَجُوزُ لَهُ الْحَلِفُ إلَّا عَلَى مَا يَعْلَمُهُ مِنْ فِعْلِهِ أَوْ فِعْلِ غَيْرِهِ، أَوْ تَقُومُ لَهُ قَرِينَةٌ قَوِيَّةٌ يَعْتَمِدُ عَلَيْهَا، وَلِذَلِكَ كَانَتْ يَمِينُ التُّهْمَةِ تَتَوَجَّهُ وَلَا تُرَدُّ؛ لِأَنَّ الْمُتَّهَمَ غَيْرُ عَالِمٍ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: سَكَتَ الْمُصَنِّفُ كَخَلِيلٍ عَنْ شَرْطِ الدَّعْوَى وَهُوَ كَمَا قَالَ الْأُجْهُورِيُّ: أَنْ تَكُونَ بِمَا يُقْضَى بِهِ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَأَنْ يَدَّعِي عَلَى رَشِيدٍ بِدَيْنٍ أَوْ قِرَاضٍ أَوْ شَرِكَةٍ أَوْ إتْلَافِ شَيْءٍ مُتَمَوِّلٍ، أَوْ عَلَى مَحْجُورٍ بِاسْتِهْلَاكِ شَيْءٍ فِيمَا لَا بُدَّ لَهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِ تَأْمِينِهِ عَلَيْهِ، لَا إنْ كَانَتْ بِمَا لَا يَلْزَمُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ، كَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى آخَرَ أَنَّهُ وَهَبَ شَيْئًا أَوْ تَصَدَّقَ بِهِ عَلَيْهِ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ اللُّزُومِ بِالْقَوْلِ أَوْ أَنَّهُ نَذَرَ لَهُ شَيْئًا؛ لِأَنَّ النَّذْرَ لَا يُقْضَى بِهِ وَلَوْ لِمُعَيَّنٍ، وَكَأَنْ يَدَّعِيَ عَلَى مَحْجُورٍ بَيْعًا أَوْ شِرَاءً فَلَا تَصِحُّ الدَّعْوَى بِشَيْءٍ مِمَّا ذُكِرَ، وَهَذَا قَرِيبٌ مِنْ قَوْلِ خَلِيلٍ: فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقٍ، قَالَ: وَكَذَا شَيْءٌ وَإِلَّا لَمْ تُسْمَعْ وَكَفَاهُ بِعْت وَتَزَوَّجْت، وَحُمِلَ عَلَى الصَّحِيحِ، وَإِذَا كَانَتْ عَلَى الْمَحْجُورِ فَيُكَلِّفُ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ عَلَى الْمَحْجُورِ بَعْدَ الْإِثْبَاتِ بِالْبَيِّنَةِ وَالْإِعْذَارِ لِلْمَحْجُورِ يَمِينًا زِيَادَةً عَلَى الْبَيِّنَةِ.
قَالَ فِي مُخْتَصَرِ الْمُتَيْطِيَّةِ: وَلَا بُدَّ مِنْ يَمِينِ الطَّالِبِ مَعَ الْبَيِّنَةِ؛ لِأَنَّ الصَّبِيَّ فِي حُكْمِ الْغَائِبِ وَالْمَيِّتِ وَالْمَسَاكِينِ، أَيْ وَالْحَقُّ لَا يَثْبُتُ عَلَى هَؤُلَاءِ إلَّا بِالْبَيِّنَةِ وَيَمِينِ الْقَضَاءِ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ الدَّعْوَى تَصِحُّ عِنْدَ وُجُودِ شَرْطِهَا وَتَتَوَجَّهُ وَلَوْ عَلَى صَبِيٍّ أَوْ سَفِيهٍ كَمَا يَصِحُّ تَوَجُّهُهَا مِنْهُمَا، فَقَدْ قَالَ فِي مُعِينِ الْحُكَّامِ: لِلْمَحْجُورِ طَلَبُ حُقُوقِهِ كُلِّهَا عِنْدَ قَاضٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَيُمَكَّنُ مِنْ ذَلِكَ مَعَ حُضُورِ وَصِيِّهِ أَوْ غَيْبَتِهِ وَلَهُ أَنْ يُوَكِّلَ عَلَى ذَلِكَ، فَلَا يُشْتَرَطُ فِي الدَّعْوَى بُلُوغٌ وَلَا رُشْدٌ.
الثَّانِي: صِفَةُ الدَّعْوَى أَنْ يَأْمُرَ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ بِالْكَلَامِ ابْتِدَاءً فَيَدَّعِي بِمَعْلُومٍ مُحَقَّقِ الْأَصْلِ وَلَوْ عَبَّرَ عَنْهُ بِلَفْظِ شَيْءٍ عَلَى مَا قَالَ الْمَازِرِيُّ وَيُبَيِّنُ سَبَبَهُ، وَإِنْ غَفَلَ عَنْ بَيَانِهِ سَأَلَهُ الْحَاكِمُ عَنْهُ، فَإِذَا قَالَ مِنْ بَيْعٍ أَوْ غَيْرِهِ كَفَى وَيُحْمَلُ عَلَى الصَّحِيحِ وَيَقُولُ فِي دَعْوَى الِاتِّهَامِ: أَتَّهِمُ هَذَا أَنَّهُ سَرَقَ مَتَاعِي أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ مِمَّا يُعَيِّنُهُ، وَبَعْدَ فَرَاغِ الدَّعْوَى يَأْمُرُ الْقَاضِي الْمُدَّعَى عَلَيْهِ بِالْجَوَابِ، فَإِنْ أَقَرَّ بِمَا ادَّعَى بِهِ عَلَيْهِ فَيَأْمُرُ الْقَاضِي الشُّهُودَ الْحَاضِرِينَ عِنْدَهُ بِالشَّهَادَةِ عَلَيْهِ وَكِتَابَةِ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ خَوْفَ جَحْدِهِ، وَإِنْ أَنْكَرَ أَمَرَ الْقَاضِي الْمُدَّعِيَ بِإِقَامَةِ الْبَيِّنَةِ عَلَيْهِ فَإِنْ أَقَامَهَا سَمِعَهَا، وَأَعْذَرَ لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ فِيهَا بِأَنْ يَقُولَ لَهُ: هَلْ عِنْدَك مَنْ يُجَرِّحُ تِلْكَ الْبَيِّنَةَ؟ فَإِنْ أَقَامَ بَيِّنَةً تَشْهَدُ بِجُرْحَتِهَا أَمَرَهُ بِغَيْرِهَا، وَإِنْ عَجَزَ عَنْ إقَامَةِ الْبَيِّنَةِ فَإِنْ طَلَبَ تَحْلِيفَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ فَلَهُ تَحْلِيفُهُ بَعْدَ إثْبَاتِ الْخُلْطَةِ عَلَى مَا قَالَ الْمُصَنِّفُ أَوْ الظِّنَّةَ وَإِنْ لَمْ يُجِبْ لَا بِإِقْرَارٍ وَلَا بِإِنْكَارٍ بَلْ سَكَتَ، أَوْ قَالَ: لَا أُخَاصِمُهُ فَإِنَّ الْحَاكِمَ يَحْبِسُهُ وَيُؤَدِّبُهُ عَلَى عَدَمِ جَوَابِهِ.
قَالَ خَلِيلٌ: وَإِنْ لَمْ يُجِبْ حُبِسَ وَأُدِّبَ أَيْ بِالضَّرْبِ بِمَا يَرَاهُ الْحَاكِمُ حَتَّى يُقِرَّ أَوْ يُنْكِرَ، ثُمَّ يَحْكُمَ عَلَيْهِ بَعْدَ ذَلِكَ بِلَا يَمِينٍ مِنْ الْمُدَّعِي؛ لِأَنَّ الْيَمِينَ فَرْعُ الْجَوَابِ وَهَذَا لَمْ يُجِبْ.
قَالَ ابْنُ الْمَوَّازِ: وَيَعُدُّ هَذَا إقْرَارًا مِنْهُ بِالْحَقِّ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا بِذَلِكَ لِدَاعِي الْحَاجَةِ إلَيْهِ لَا سِيَّمَا الْمُبْتَدِي فَإِنَّهُ لَا يَعْرِفُ صِفَةَ الدَّعْوَى. ثُمَّ بَيَّنَ صِفَةَ الْيَمِينِ الَّتِي تُطْلَبُ فِي الْحُقُوقِ بِقَوْلِهِ: (وَالْيَمِينُ) الشَّرْعِيَّةُ الَّتِي لَا يُوَجِّهُهَا إلَّا حَاكِمٌ أَوْ مُحَكَّمٌ فِي كُلِّ حَقٍّ سِوَى اللِّعَانِ، وَقِيلَ: وَسِوَى الْقَسَامَةِ (بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ) وَلَوْ كِتَابِيًّا عَلَى الْمَشْهُورِ وَلَا يَكُونُ بِذَلِكَ مُؤْمِنًا، وَقَوْلُنَا: تُطْلَبُ فِي الْحُقُوقِ احْتِرَازٌ عَنْ الْيَمِينِ الَّتِي تُكَفِّرُ فَإِنَّهَا أَعَمُّ، إذْ تَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ ذِكْرِ اللَّهِ أَوْ صِفَةٍ مِنْ صِفَاتِهِ الذَّاتِيَّةِ، وَقَوْلُنَا: الَّتِي لَا يُوَجِّهُهَا إلَّا حَاكِمٌ أَوْ مُحَكَّمٌ إشَارَةً إلَى أَنَّ الطَّالِبَ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُجْبِرَ خَصْمَهُ عَلَى الْحَلِفِ.
وَأَمَّا اللِّعَانُ فَإِنَّهُ يَقُولُ فِيهِ: أَشْهَدُ بِاَللَّهِ فَقَطْ وَأَمَّا الْقَسَامَةُ فَقِيلَ يَقُولُ: أُقْسِمُ بِاَللَّهِ لَمِنْ ضَرْبِهِ مَاتَ، وَقِيلَ: يَحْلِفُ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَخَلِيلٍ فَإِنَّهُ قَالَ: وَالْيَمِينُ فِي كُلِّ حَقٍّ بِاَللَّهِ الَّذِي لَا إلَهَ إلَّا هُوَ، وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنْ مَالِكٍ كَمَا نَبَّهْنَا عَلَى ذَلِكَ فِي بَابِ الْقَسَامَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْيَمِينَ تَتَوَجَّهُ فِي كُلِّ مَالٍ وَلَوْ قَلِيلًا. وَأَمَّا تَغْلِيظُهَا فَإِنَّمَا يَكُونُ فِي الْمَالِ الْعَظِيمِ وَهُوَ رُبْعُ دِينَارٍ فَأَكْثَرُ، وَأَشَارَ إلَى بَيَانِ مَا يَكُونُ بِهِ التَّغْلِيظُ بِقَوْلِهِ: (وَيَحْلِفُ) الْمَطْلُوبُ عِنْدَ إرَادَةِ الطَّالِبِ التَّغْلِيظَ عَلَيْهِ حَالَةَ كَوْنِهِ (قَائِمًا وَعِنْدَ مِنْبَرِ الرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -) إذَا كَانَ التَّحْلِيفُ بِمَدِينَةِ الْمُصْطَفَى - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَصِلَةٌ يَحْلِفُ (فِي رُبْعِ دِينَارٍ فَأَكْثَرَ) وَمِثْلُ الرُّبُعِ دِينَارُ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ مِنْ عَرْضٍ أَوْ ثَلَاثَةِ دَرَاهِمَ فَأَقَلَّ مِنْ ذَلِكَ لَا تَغْلِيظَ فِيهِ وَإِنْ تَوَجَّهَتْ فِيهِ الْيَمِينُ.
وَيُفْهَمُ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَنَّهَا لَا تُغَلَّظُ بِمِنْبَرٍ غَيْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قَالَ فِي الْمُدَوَّنَةِ: وَلَا يَعْرِفُ مَالِكٌ الْيَمِينَ عِنْدَ الْمِنْبَرِ إلَّا مِنْبَرَ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ خَبَرُ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى مِنْبَرِي هَذَا يَمِينًا آثِمَةً فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ» .
وَرُبَّمَا يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: مِنْبَرِي هَذَا أَنَّهُ لَوْ تَغَيَّرَ الْمِنْبَرُ الَّذِي كَانَ فِي زَمَانِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ الْحَلِفُ عِنْدَ الْمُجَدَّدِ، وَهَلْ يَكُونُ