. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
ــ
[الفواكه الدواني]
مُسْلِمٍ فَهُوَ مِنْ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ الْعَالِمِ: قَالَ فُلَانٌ كَذَا مُرِيدًا التَّشْنِيعَ عَلَيْهِ فِي حُكْمٍ أَوْ إعْرَابٍ أَخْطَأَ فِيهِ، لَا إنْ لَمْ يُعَيِّنُهُ أَوْ عَيَّنَهُ لِيُنَبِّهَ الْغَيْرَ عَلَى خَطَإِ كَلَامِهِ فَلَا يَكُونُ غِيبَةً بَلْ نَصِيحَةً وَاجِبَةً، وَعُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا فِي ضَابِطِهَا أَنَّ الْغِيبَةَ تَحْصُلُ بِالتَّعْرِيضِ، كَمَا إذَا قَالَ شَخْصٌ لِآخَرَ: مَا تَقُولُ فِي فُلَانٍ؟ فَيَقُولُ: يُصْلِحُ اللَّهُ، أَوْ نَسْأَلُ اللَّهَ الْعَفْوَ، أَوْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَبْتَلِنَا بِالدُّخُولِ عَلَى الظُّلْمَةِ، وَعُلِمَ أَيْضًا أَنَّهَا لَا تَتَقَيَّدُ بِالذَّكَرِ كَمَا وَقَعَ فِي قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي بَيَانِ حَقِيقَتِهَا: «أَنْ تَذْكُرَ أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ» بَلْ الْمَدَارُ عَلَى انْتِقَاصِ الْمُسْلِمِ، فَيَشْمَلُ الْغِيبَةَ بِالْقَلْبِ لِأَنَّهُ مِنْ سُوءِ الظَّنِّ وَهُوَ حَرَامٌ مِثْلُ الْقَوْلِ، وَالْمُرَادُ بِسُوءِ الظَّنِّ عَقْدُ الْقَلْبِ وَحُكْمُهُ عَلَى الْغَيْرِ بِالسُّوءِ، وَأَمَّا الْخَاطِرُ بِالْقَلْبِ الَّذِي لَمْ يَسْتَقِرَّ فِيهِ فَمَعْفُوٌّ عَنْهُ بِاتِّفَاقِ الْعُلَمَاءِ لِأَنَّهُ لَا اخْتِيَارَ لِلشَّخْصِ فِي وُقُوعِهِ.
(تَنْبِيهَاتٌ) الْأَوَّلُ: حُرْمَةُ الْغِيبَةِ ثَابِتَةٌ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا} [الحجرات: ١٢] وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ذِكْرُك أَخَاك بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ: أَفَرَأَيْت إنْ كَانَ فِي أَخِي مَا أَقُولُ؟ قَالَ: إنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ اغْتَبْته، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ مَا تَقُولُ فَقَدْ بَهَتَّهُ» .
قَالَ التِّرْمِذِيُّ: حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَمَعْنَى بَهَتَّهُ بِالْهَاءِ الْمُشَدَّدَةِ رَمَيْته بِالْبُهْتَانِ وَهُوَ الْكَذِبُ.
الثَّانِي: اخْتَلَفَتْ الْعُلَمَاءُ فِي مَرْتَبَةِ الْغِيبَةِ مِنْ التَّحْرِيمِ بَعْدَ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُرْمَتِهَا، فَذَهَبَ الْقُرْطُبِيُّ مِنْ الْمَالِكِيَّةِ إلَى أَنَّهَا كَبِيرَةٌ وَحَكَى عَلَيْهِ اتِّفَاقَ أَهْلِ الْمَذْهَبِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الشَّافِعِيَّةِ إلَى أَنَّهَا صَغِيرَةٌ، وَاَلَّذِي جَزَمَ بِهِ ابْنُ حَجَرٍ الْهَيْتَمِيُّ فِي شَرْحِ الشَّمَائِلِ أَنَّ غِيبَةَ الْعَالِمِ أَوْ حَامِلِ الْقُرْآنِ كَبِيرَةٌ وَغِيبَةُ غَيْرِهِمَا صَغِيرَةٌ، قَالَ بَعْضُهُمْ: وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ، قَالَ الْبُرْهَانُ اللَّقَانِيُّ: وَلَمْ يَشْهَدْ لِلتَّفْرِقَةِ كِتَابٌ وَلَا سُنَّةٌ فَالْمُتَّجِهُ الطَّرْدُ لِحُرْمَةِ الْمُغْتَابِ.
الثَّالِثُ: فُهِمَ مِنْ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ حُكْمُ الْغِيبَةِ فِي حَقِّ الْمُغْتَابِ وَسَكَتَ عَنْ حُكْمِ سَامِعِيهَا، وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّهُ يَحْرُمُ عَلَيْهِ اسْتِمَاعُهَا وَالْإِقْرَارُ عَلَيْهَا، وَيَجِبُ عَلَى كُلِّ مَنْ سَمِعَ غِيبَةً مُحَرَّمَةً أَنْ يَنْهَى الْفَاعِلَ إنْ لَمْ يَخَفْ مِنْهُ، وَإِلَّا وَجَبَ عَلَيْهِ مُفَارَقَتُهُ مَعَ الْإِنْكَارِ بِقَلْبِهِ، فَإِنْ نَهَاهُ بِلِسَانِهِ دُونَ قَلْبِهِ كَانَ عَاصِيًا.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ: لِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْقَلْبِ مِنْ النِّفَاقِ الَّذِي لَا يَخْرُجُ عَنْ الْإِثْمِ.
الرَّابِعُ: فُهِمَ مِنْ ذِكْرِ الْأَخِ فِي حَدِّ الْغِيبَةِ وَالتَّقْيِيدِ بِالْكَرَاهَةِ عَدَمُ الْغِيبَةِ فِي الْكَافِرِ، وَأَنَّهُ لَوْ ذَكَرَ أَخَاهُ بِمَا لَا يَكْرَهُهُ كَقَوْلِهِ فِي غِيبَتِهِ هُوَ سَارِقٌ أَوْ مُحَارِبٌ وَهُوَ يَتَمَدَّحُ بِذَلِكَ لَا يَكُونُ غِيبَةً وَهُوَ كَذَلِكَ كَمَا سَيَأْتِي فِي الْمُتَجَاهِرِ.
(خَاتِمَتَانِ) الْأُولَى: تَشْتَمِلُ عَلَى مَسَائِلَ تُبَاحُ فِيهَا الْغِيبَةُ بَلْ رُبَّمَا تَجِبُ لِمَصْلَحَةٍ اقْتَضَتْهَا جَمَعَهَا بَعْضُهُمْ فِي بَيْتٍ بِقَوْلِهِ:
لِسِتٍّ غِيبَةً كَرِّرْ وَخُذْهَا ... مُنَظَّمَةً كَأَمْثَالِ الْجَوَاهِرِ
تَظَلَّمْ وَاسْتَغِثْ وَاسْتَفْتِ حَذِّرْ ... وَعَرِّفْ وَاذْكُرَنْ فِسْقَ الْمُجَاهِرِ
فَالتَّظَلُّمُ كَإِخْبَارِ الْمَظْلُومِ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى رَدْعِ الظَّالِمِ مِنْ حَاكِمٍ أَوْ قَاضٍ أَوْ نَحْوِهِمَا وَيُسَمِّيهِ لَهُ. وَالِاسْتِغَاثَةُ بِالْمُثَلَّثَةِ أَوْ النُّونِ أَنْ يَطْلُبَ مَنْ هُوَ فِي شِدَّةٍ وَكَرْبٍ مِنْ شَخْصٍ ذِي جَوْرٍ إزَالَتَهَا أَوْ مِمَّنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى ذَلِكَ مَعَ تَسْمِيَةِ الْمُسْتَغَاثِ مِنْهُ. وَالِاسْتِفْتَاءُ بِأَنْ يَقُولَ الْمَظْلُومُ لِلْعَالِمِ: كَيْفَ الْخَلَاصُ مِمَّنْ ظَلَمَنِي بِسَرِقَةِ مَالِي أَوْ سَبَّنِي أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ وَمَا يَسْتَحِقُّهُ مِنْ أَنْوَاعِ الزَّجْرِ. وَالتَّحْذِيرِ بِأَنْ يَقُولَ الْعَالِمُ فِي دَرْسِهِ قَوْلُ فُلَانٍ ضَعِيفٌ أَوْ حَدِيثُهُ غَيْرُ مَقْبُولٍ أَوْ فُلَانٌ مِنْ الْمُبْتَدَعَةِ لِلتَّحْذِيرِ مِنْ الْعَمَلِ بِكَلَامِهِ، وَمِثْلُ ذَلِكَ إخْبَارُ الْحَاكِمِ بِحَالِ الشَّاهِدِ الْمَجْرُوحِ عِنْدَ إرَادَتِهِ الْحُكْمَ بِشَهَادَتِهِ، وَشَرَطَ الشِّهَابُ الْقَرَافِيُّ فِي هَذَا الْوَجْهِ الِاقْتِصَارَ عَلَى قَدْرِ الْحَاجَةِ، فَلَا يَزِيدُ عَلَى ذِكْرِ الْقَادِحِ فِي قَبُولِ الشَّهَادَةِ أَوْ الرِّوَايَةِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فِي تَجْرِيحِ الشَّاهِدِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ فِي حَقِّ مَنْ طَلَبَ الرِّوَايَةَ، فَلَا يُخْبِرُ بِحَالِ شَخْصٍ لَمْ يُرَدْ أَنْ يَشْهَدَ وَلَمْ يُرِدْ أَحَدٌ الرِّوَايَةَ عَنْهُ.
وَالتَّعْرِيفُ بَيَانُ حَالِ مَنْ سَأَلَك عِنْدَ إنْسَانٍ لِيَتَزَوَّجَ مِنْهُ أَوْ يُعَامِلَهُ أَوْ يُسَافِرَ مَعَهُ أَوْ غَيْرَ ذَلِكَ فَتُعَرِّفُهُ بِحَالِهِ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ النَّصِيحَةِ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عِنْدَ السُّؤَالِ وَمَنْدُوبَةٌ عِنْدَ غَيْرِهِ، وَاسْتَظْهَرَ بَعْضٌ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا حَيْثُ انْفَرَدَ هَذَا الشَّخْصُ بِمَعْرِفَةِ مَسَاوِئِ هَذَا الْإِنْسَانِ. وَذَكَرَ فِسْقَ الْمُجَاهِرِ أَنْ يَكُونَ شَخْصٌ مُعْلِنًا بِشُرْبِ خَمْرٍ أَوْ سَرِقَةٍ أَوْ زِنًا فَيَجُوزُ لَك أَنْ تَذْكُرَ ذَلِكَ الَّذِي تَجَاهَرَ بِهِ بِخُصُوصِهِ عِنْدَ مِنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى تَغْيِيرِ الْمُنْكَرِ، وَلَا يَشْكُلُ عَلَى اشْتِرَاطِ التَّجَاهُرِ وَالْإِعْلَانِ بِارْتِكَابِهِ الْمُفَسِّقَ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «لَا غِيبَةَ فِي فَاسِقٍ» فَإِنَّ ظَاهِرَهُ عَدَمُ اشْتِرَاطِ التَّجَاهُرِ بِالْمُفَسِّقِ، لِأَنَّا نَقُولُ: الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتِ الصِّحَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْحَدِيثِ، وَلَوْ سَلِمَتْ صِحَّتُهُ وَجَبَ تَقْيِيدُهُ بِمَا إذَا اُغْتِيبَ بِجِنْسِ مَا فُسِّقَ بَعْدَ ثُبُوتِهِ عَلَيْهِ أَوْ مُجَاهَرَتِهِ بِهِ وَإِصْرَارِهِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهُ