وَالْبَاطِلِ كُلِّهِ قَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُت وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -،
ــ
[الفواكه الدواني]
بَعْدَ تَوْبَتِهِ لَا تَجُوزُ غِيبَتُهُ وَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ إطْلَاقَهُ اتِّفَاقًا، وَمِنْ الْجَائِزِ تَعْرِيفُ الْمَشَايِخِ بِأَلْقَابِهِمْ حَيْثُ لَا يَتَمَيَّزُونَ إلَّا بِهَا نَحْوَ الْأَعْوَرِ وَالْأَعْرَجِ وَالْأَفْطَسِ وَالْأَصَمِّ، وَلَمْ يَقْصِدُ بِوَصْفِهِمْ تَنْقِيصَهُمْ وَإِلَّا حَرُمَ.
(الْخَاتِمَةُ الثَّانِيَةُ) الْغِيبَةُ لَهَا جِهَتَانِ: إحْدَاهُمَا مِنْ حَيْثُ الْإِقْدَامُ عَلَيْهَا، وَالْأُخْرَى مِنْ حَيْثُ أَذِيَّةُ الْمُغْتَابِ، فَالْأُولَى تَنْفَعُ فِيهَا التَّوْبَةُ بِمُجَرَّدِهَا، وَالثَّانِيَةُ لَا بُدَّ فِيهَا مَعَ التَّوْبَةِ مِنْ طَلَبِ عَفْوِ الْمُغْتَابِ عَنْ صَاحِبِهَا وَلَوْ بِالْبَرَاءَةِ الْمَجْهُولِ مُتَعَلَّقُهَا عِنْدَنَا، وَعَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ يُعْتَبَرُ تَعْيِينُ الْغِيبَةِ لِصَاحِبِهَا إنْ بَلَغَتْهُ عَلَى وَجْهٍ أَفْحَشَ، وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي ذَلِكَ لِعُمُومِ الْبَلْوَى بِهَا.
١ -
(وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ الْمُجْمَعِ عَلَيْهَا صَوْنُ اللِّسَانِ عَنْ (النَّمِيمَةِ) وَهِيَ نَقْلُ كَلَامِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إلَى بَعْضٍ عَلَى جِهَةٍ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهَا الْإِفْسَادُ بَيْنَهُمْ.
قَالَ أَبُو حَامِدٍ الْغَزَالِيُّ: إنَّمَا تُطْلَقُ فِي الْغَالِبِ عَلَى مَنْ يَنْمِي قَوْلَ الْغَيْرِ إلَى الْمَقُولِ فِيهِ كَقَوْلِهِ: فُلَانٌ يَقُولُ فِيك كَذَا، وَلَيْسَتْ النَّمِيمَةُ مُخْتَصَّةً بِذَلِكَ بَلْ حَدُّهَا كَشْفُ مَا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، سَوَاءٌ كَرِهَهُ الْمَنْقُولُ عَنْهُ أَوْ الْمَنْقُولُ إلَيْهِ أَوْ ثَالِثٌ لِأَنَّهُ يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الْفَسَادُ عَلَى كُلِّ حَالٍ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْكَشْفُ بِالْقَوْلِ أَوْ الْكِتَابَةِ أَوْ الرَّمْزِ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْمَنْقُولُ مِنْ الْأَعْمَالِ أَوْ الْأَحْوَالِ، وَسَوَاءٌ كَانَ عَيْبًا أَوْ غَيْرَهُ، لِأَنَّ الْمَدَارَ عَلَى مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ أَذِيَّةُ الْغَيْرِ وَلِذَا قَالَ النَّوَوِيُّ: حَقِيقَةُ النَّمِيمَةِ إفْشَاءُ السِّرِّ وَهَتْكُ السِّتْرِ عَمَّا يُكْرَهُ كَشْفُهُ، وَيَنْبَغِي لِلْإِنْسَانِ أَنْ يَسْكُتَ عَلَى كُلِّ مَا يَرَاهُ مِنْ أَحْوَالِ النَّاسِ، إلَّا مَا كَانَ فِي حِكَايَتِهِ مَصْلَحَةٌ لِمُسْلِمٍ أَوْ دَفْعُ مَعْصِيَةٍ، وَإِذَا رَأَى الْمُكَلَّفُ شَخْصًا يُخْفِي حَالَ نَفْسِهِ فَذَكَرَهُ لِلْغَيْرِ كَانَ نَمِيمَةً.
قَالَ النَّوَوِيُّ أَيْضًا: وَكُلُّ مَنْ حُمِلَتْ إلَيْهِ نَمِيمَةٌ وَقِيلَ لَهُ قَالَ فِيك فُلَانٌ كَذَا لَزِمَهُ سِتَّةُ أُمُورٍ: عَدَمُ تَصْدِيقِهِ وَنَهْيُهُ عَنْ فِعْلِهَا وَبُغْضُهُ مِنْ أَجَلِهَا وَعَدَمُ ظَنِّهِ سُوءًا بِالْمَنْقُولِ عَنْهُ وَعَدَمُ بَحْثِهِ عَنْ هَذَا الْأَمْرِ وَعَدَمُ الرِّضَا لِنَفْسِهِ بِمَا نَهَى التَّمَامُ عَنْهُ.
(تَنْبِيهَانِ) الْأَوَّلُ: قَالَ النَّوَوِيُّ: مَحَلُّ حُرْمَةِ النَّمِيمَةِ حَيْثُ لَا مَصْلَحَةَ فِيهَا وَإِلَّا جَازَتْ، وَرُبَّمَا تَجِبُ ذَلِكَ بِأَنْ يُخْبِرَك شَخْصٌ أَنَّ قَصْدَهُ قَتْلُ فُلَانٍ أَوْ سَرِقَةُ مَالِهِ أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ إعْلَامُ الْحَاكِمِ أَوْ مَنْ لَهُ قُدْرَةٌ عَلَى زَجْرِ الْعُصَاةِ فَإِنَّهُ لَا حُرْمَةَ فِيهِ، وَيُطْلَبُ مِنْ الْحَاكِمِ وَمَنْ أُلْحِقَ بِهِ الْفَحْصُ عَنْ ذَلِكَ وَإِزَالَتُهُ.
الثَّانِي: الدَّلِيلُ عَلَى حُرْمَةِ النَّمِيمَةِ وَأَنَّهَا كَبِيرَةٌ خَبَرُ الصَّحِيحَيْنِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» وَفِي رِوَايَةٍ قَتَّاتٌ لِأَنَّهُ النَّمَّامُ.
قَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ هَذَا الْكِتَابِ: لَا خِلَافَ فِي أَنَّهَا مِنْ أَعْظَمِ الْكَبَائِرِ، وَصَاحِبُهَا مَمْقُوتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ النَّاسِ، وَأَكْبَرُ أَنْوَاعِهَا السِّعَايَةُ وَهِيَ الْإِدْلَاءُ بِالنَّاسِ لِلظُّلْمَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْأَئِمَّةِ: وَقَدْ بُحِثَ عَنْ فَاعِلِهَا فَلَمْ يُوجَدْ قَطُّ إلَّا وَلَدُ زِنًا، وَأُخِذَ مِنْ قَوْله تَعَالَى: {هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ - مَنَّاعٍ} [القلم: ١١ - ١٢] الْآيَةَ أَنَّ النَّمَّامَ لَا يَكُونُ إلَّا وَلَدَ زِنًا، وَقَوْلُهُ فِي الْحَدِيثِ: «لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ نَمَّامٌ» هُوَ وَأَمْثَالُهُ مَحْمُولٌ عَلَى الْمُسْتَحِيلِ،
١ -
وَلَمَّا كَانَتْ الْمُحَرَّمَاتُ عَلَى الْمُكَلَّفِ كَثِيرَةً قَالَ: (وَ) مِنْ الْفَرَائِضِ اجْتِنَابُ (الْبَاطِلِ) وَهُوَ كُلُّ مَا لَا يَحِلُّ. (كُلِّهِ) سَوَاءٌ كَانَ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالسَّبِّ وَاللَّعْنِ وَالْقَذْفِ، أَوْ مِنْ الْأَفْعَالِ كَالْغَصْبِ وَالْخِيَانَةِ وَالسَّرِقَةِ وَالْخَدِيعَةِ وَالْغِشِّ وَاللَّهْوِ وَتَأْخِيرِ الصَّلَاةِ عَنْ اخْتِيَارَيْهَا اخْتِيَارًا، وَالزَّكَاةِ وَالْحَجِّ مَعَ الِاسْتِطَاعَةِ، أَوْ الْأَخْلَاقِ كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَالْحِقْدِ وَالْحَسَدِ.
قَالَ شَيْخُ مَشَايِخِنَا فِي جَوْهَرَتِهِ:
وَأْمُرْ بِعُرْفٍ أَوْ اجْتَنِبْ نَمِيمَهُ ... وَغِيبَةً وَخَصْلَةً ذَمِيمَهُ
كَالْعُجْبِ وَالْكِبْرِ وَدَاءِ الْحَسَدْ ... وَكَالْمِرَاءِ وَالْجَدَلِ فَاعْتَمِدْ
فَالْكِبْرُ هُوَ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْصُ النَّاسِ لِخَبَرِ: «لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ مِنْ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ الْكِبْرِ» هَذَا مَحْمُولٌ عَلَى الْكِبْرِ عَلَى الصَّالِحِينَ، وَأَمَّا التَّكَبُّرُ عَلَى نَحْوِ الْفَسَقَةِ فَمَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَغَمْصُ النَّاسِ بِالصَّادِ وَالطَّاءِ الْمُهْمَلَتَيْنِ أَيْ احْتِقَارُهُمْ، وَبَطَرُ الْحَقِّ رَدُّهُ عَلَى قَائِلِهِ، وَالْعُجْبُ هُوَ رُؤْيَةُ الْعِبَادَةِ حَسَنَةً وَاسْتِعْظَامُهَا مِنْ الْعَبْدِ، كَمَا يُعْجَبُ الْعَابِدُ بِعِبَادَتِهِ وَالْعَالِمُ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُبْطِلُ الْعِبَادَةَ وَإِنْ كَانَ حَرَامًا لِوُقُوعِهِ بَعْدَهَا بِخِلَافِ الرِّيَاءِ، وَلَيْسَ مِنْ الرِّيَاءِ وَلَا الْعُجْبِ رُؤْيَةُ الشَّخْصِ ثَوْبَهُ أَوْ فِعْلَهُ حَسَنًا لِأَنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْجَمَالَ، ثُمَّ اسْتَدَلَّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِ الْبَاطِلِ كُلِّهِ بِحَدِيثَيْنِ: أَوَّلُهُمَا أَشَارَ إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (قَالَ الرَّسُولُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ) الْإِيمَانَ الْكَامِلَ الْمُنْجِي مِنْ عَذَابِهِ الْمُوَصِّلِ إلَى رِضَاهُ (بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخَرِ) وَهُوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِاَللَّهِ الِاعْتِرَافُ بِوُجُوبِ وُجُودِهِ وَصَانِعِيَّتِهِ لِلْعَالَمِ، وَمَعْنَى الْإِيمَانِ بِالْيَوْمِ الْآخَرِ التَّصْدِيقُ بِهِ وَبِأَهْوَالِهِ وَفَظَائِعِهِ الَّتِي تَقَعُ فِيهِ وَجَوَابُ الشَّرْطِ. (فَلْيَقُلْ) أَيْ يَذْكُرْ (خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ) بِكَسْرِ الْمِيمِ مَاضِيه صَمَتَ بِفَتْحِ الْمِيمِ، لِأَنَّ قِيَاسَ فَعَلَ الْمَفْتُوحِ الْعَيْنِ يَفْعِلُ