للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

ــ

[الفواكه الدواني]

الْأَرْحَامِ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ وَإِجْمَاعُ الْأُمَّةُ.

قَالَ تَعَالَى: {وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ} [النساء: ١] وَالسُّنَّةُ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» . وَالْإِجْمَاعُ دَلَّ عَلَى فَرْضِيَّةِ صِلَةِ الرَّحِمِ، مَنْ تَرَكَهَا يَكُونُ عَاصِيًا، وَيَجِبُ صِلَةُ الرَّحِمِ وَصَلَكَ أَوْ قَطَعَكَ، فَإِنَّهُ قَدْ قِيلَ: لَيْسَ الْمُوَاصِلُ مِنْ يَصِلُ مَنْ وَصَلَهُ وَإِنَّمَا الْمُوَاصِلُ مِنْ يَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، لِأَنَّ مُوَاصِلَ الْمُوَاصِلِ بَائِعٌ وَمُشْتَرٍ، يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ مَنْ يَكُونُ رَحِمُهُ يَتَعَاظَمُ عَلَيْهِ بِحَيْثُ لَا يُحِبُّ أَنْ يَصِلَهُ وَيَتَضَرَّرُ مِنْ حُضُورِهِ لَهُ، كَمَا هُوَ مُشَاهَدٌ فِي بَعْضِ الْأَغْنِيَاءِ لَا يُحِبُّونَ مِنْ أَرْحَامِهِمْ الْفُقَرَاءِ الْقُرْبَ إلَيْهِمْ، فَهَؤُلَاءِ لَا يُطْلَبُ مِنْ الْقَرِيبِ الْفَقِيرِ صِلَتُهُمْ، وَلَا شَكَّ فِي إثْمِ الْغَنِيِّ بَلْ هُوَ اللَّئِيمُ، لِأَنَّهُ الَّذِي إذَا اسْتَغْنَى يَجْفُو قَرَابَتَهُ الْفُقَرَاءَ وَيُنْكِرُ نِسْبَتَهُمْ إلَيْهِ. وَفِي صِلَةِ الْأَرْحَامِ فَوَائِدُ، مِنْهَا: أَنَّهَا تُطِيلُ فِي الْعُمُرِ وَتَزِيدُ فِي الرِّزْقِ وَتَدْعُو لِمَنْ يَصِلُهَا، فَفِي الصَّحِيحِ: «الرَّحِمُ شُجْنَةٌ وَصَلَ اللَّهُ مَنْ وَصَلَهَا وَقَطَعَ اللَّهُ مَنْ قَطَعَهَا» وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُوَسَّعَ لَهُ فِي رِزْقِهِ وَيُنْسَأَ لَهُ فِي عُمُرِهِ فَلْيَصِلْ رَحِمَهُ» وَيُنْسَأَ مِنْ النُّسَأِ فَهُوَ بِالْهَمْزِ وَهُوَ التَّأْخِيرُ.

وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «الرَّحِمُ حُجْنَةٌ مُتَمَسِّكَةٌ بِالْعَرْشِ تَتَكَلَّمُ بِلِسَانٍ ذَلْقٍ: اللَّهُمَّ صِلْ مَنْ وَصَلَنِي، وَاقْطَعْ مَنْ قَطَعَنِي» وَشُجْنَةٌ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ عَلَى مَا فِي أُصُولٍ كَثِيرَةٍ، وَفِي الْمَعَانِي الدَّقِيقَةِ فِي إدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ لِلسُّيُوطِيِّ بَعْدَ ذِكْرِهِ الْحَدِيثَ حُجْنَةٌ بِضَمِّ الْحَاءِ وَالْجِيمِ وَالنُّونِ الْخَفِيفَةِ. وَفِي مُقَدِّمَةِ فَتْحِ الْبَارِي قَوْلُهُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحِمِ بِضَمِّ أَوَّلِهِ وَيُكْسَرُ وَحُكِيَ الْفَتْحُ أَيْضًا، وَأَصْلُهَا اشْتِبَاكُ الْعُرُوقِ وَالْأَغْصَانِ.

وَفِي النِّهَايَةِ الرَّحِمُ شُجْنَةٌ مِنْ الرَّحِمِ أَيْ قَرَابَةٌ مُشْتَبِكَةٌ كَاشْتِبَاكِ الْعُرُوقِ وَشِبْهِهَا فَهُوَ مَجَازٌ، لِأَنَّ الشُّجْنَةَ فِي الْأَصْلِ شُعْبَةٌ مِنْ غُصْنٍ مِنْ أَغْصَانِ الشَّجَرِ، وَبِضَبْطِ السُّيُوطِيّ الْتَبَسَ الْحَقُّ عِنْدِي هَلْ شُجْنَةٌ بِالشِّينِ أَوْ بِالْحَاءِ وَالْجِيمِ يُحَرَّرُ.

وَمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ صِلَةَ الرَّحِمِ تَزِيدُ فِي الْعُمُرِ قِيلَ حَقِيقَةٌ وَقِيلَ مَجَازٌ عَنْ حُصُولِ الْبَرَكَةِ فِيهِ، وَكَمَا تَزِيدُ صِلَةُ الرَّحِمِ فِي الْعُمُرِ كَذَلِكَ الصَّدَقَةُ كَمَا وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ وَبِالسَّلَامِ عَلَى مَنْ لَقِيته مِنْ الْأُمَّةِ لِمَا وَرَدَ فِي حَدِيثِ أَنَسٍ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِأَنَسٍ: «أَلَا أُعَلِّمُك ثَلَاثَ خِصَالٍ تَنْتَفِعُ بِهَا؟ فَقُلْت: بَلَى بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: مَنْ لَقِيت مِنْ أُمَّتِي فَسَلِّمْ عَلَيْهِ يَطُلْ عُمُرَك، وَإِذَا دَخَلْت بَيْتَك فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ يَكْثُرْ خَيْرُ بَيْتِك، وَتَسْرِيحُ اللِّحْيَةِ مِنْ الرَّأْسِ عَلَى الدَّوَامِ» لِأَنَّ الْمُلَازَمَةَ عَلَى ذَلِكَ تَحْفَظُ مِنْ الْبِلَى وَتُطِيلُ مِنْ الْعُمُرِ كَمَا قَالَ ابْنُ الْعِمَادِ، وَالْمُرَادُ أَنَّهُ يَحْصُلُ طُولُ الْعُمُرِ بِفِعْلِ خَصْلَةٍ مِنْ تِلْكَ الْخِصَالِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى فِعْلِ غَيْرِهَا، وَالزِّيَادَةُ فِي الْعُمُرِ بِالْمَذْكُورَاتِ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ حَقِيقَةً، وَأَنْ تَكُونَ مَعْنَوِيَّةً بِأَنْ يُبَارِكَ فِي عُمُرِهِ بِحَيْثُ يَعْمَلُ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ عَمَلِ مَنْ طَالَ عُمْرُهُ، وَيَنْبَنِي عَلَى الْقَوْلَيْنِ جَوَازُ الدُّعَاءِ بِطُولِ الْعُمْرِ وَعَدَمُ جَوَازِهِ وَالْحَقُّ الْجَوَازُ، وَمَا قِيلَ مِنْ أَنَّ الْعُمْرَ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ فَبِاعْتِبَارِ مَا فِي صُحُفِ الْمَلَائِكَةِ. وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ وُجُوبِ مُوَالَاةِ الْمُؤْمِنِينَ الْمُلَازَمَةُ فِي كُلِّ زَمَنٍ بَيَّنَ هُنَا الْمُرَادَ مِنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ) الثَّابِتِ لَهُ (عَلَى) أَخِيهِ (الْمُؤْمِنِ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ إذَا لَقِيَهُ) بِأَنْ يَبْدَأَهُ بِالسَّلَامِ، وَإِنَّمَا وَصَفْنَا الْحَقَّ بِالثَّابِتِ دُونَ الْوَاجِبِ، لِأَنَّ الْأُمُورَ الْآتِيَةَ مِنْ الْعِبَادَةِ وَالتَّشْمِيتِ وَشُهُودِ الْجِنَازَةِ قَدْ تَكُونُ غَيْرَ وَاجِبَةٍ وَكَذَلِكَ السَّلَامُ، لِأَنَّهُ إذَا كَانَ لِلْخُرُوجِ مِنْ الْهُجْرَانِ الْمُحَرَّمِ يَكُونُ وَاجِبًا وَإِنْ كَانَ لِغَيْرِهِ يَكُونُ سُنَّةً فَلَا تَتَوَهَّمُ مِنْ التَّعْبِيرِ بِالْحَقِّ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا، وَإِذَا سَلَّمَ الْمُؤْمِنُ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ فَيُطْلَبُ مِنْهُ أَنْ يَكُونَ قَلْبُهُ خَالِيًا مِنْ الْحِقْدِ وَالْغِلِّ وَالْحَسَدِ حَتَّى يَكُونَ مُوَالِيًا لَهُ.

(وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَعُودَهُ) أَيْ يَزُورَهُ وَيَقُومَ بِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ (إذَا مَرِضَ) وَالْمَطَالِبُ بِذَلِكَ ابْتِدَاءً الْقَرِيبُ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فَأَصْحَابُهُ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ لَهُ أَصْحَابٌ فَأَهْلُ مَوْضِعِهِ، فَإِنْ تَرَكُوا جَمِيعًا عَصَوْا لِأَنَّ عِيَادَةَ الْمَرِيضِ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ عِنْدَ وُجُودِ الْغَيْرِ وَإِلَّا تَعَيَّنَتْ، وَتَكُونُ الْعِيَادَةُ مِنْ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ إذَا كُنَّ مِنْ الْمَحَارِمِ لَهُ، وَتَكُونُ فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ، وَقِيلَ بِطَلَبِهَا لَيْلًا فِي الشِّتَاءِ وَنَهَارًا فِي الصَّيْفِ لِشِدَّةِ تَأَذِّي الْمَرِيضِ لِطُولِ اللَّيْلِ فِي الشِّتَاءِ وَلِطُولِ النَّهَارِ فِي الصَّيْفِ، وَأَقَلُّ مَرَاتِبِهَا بَعْدَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ لِمَنْ يَشْتَدُّ بِهِ الْمَرَضُ، وَإِلَّا فَقَدْ تَجِبُ فِي كُلَّ وَقْتٍ وَتُشْرَعُ لِكُلِّ مَرِيضٍ وَلَوْ أَرْمَدَ، وَخَبَرُ: «ثَلَاثَةٌ لَا يُعَادُونَ: صَاحِبُ الضِّرْسِ وَصَاحِبُ الرَّمَدِ وَصَاحِبُ الدُّمَّلِ» ضَعَّفَهُ عَبْدُ الْحَقِّ فِي أَحْكَامِهِ، فَالصَّوَابُ إطْلَاقُ الْمُصَنِّفِ لِحَدِيثِ أَبِي دَاوُد عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ قَالَ: «عَادَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ وَجَعٍ كَانَ بِعَيْنِي» فَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّ فِي الرَّمَدِ أَنْ يُعَادَ، وَلَكِنْ يَنْبَغِي لِلزَّائِرِ مُطْلَقًا أَنْ تَكُونَ زِيَارَتُهُ عَلَى وَجْهٍ وَفِي وَقْتٍ يَرْضَاهُ الْمَرِيضُ وَيَأْنَسُ بِهِ، فَلَا يَزُورُهُ فِي وَقْتٍ يُكْرَهُ زِيَارَتُهُ فِيهِ كَوَقْتِ اشْتِغَالِهِ بِعِبَادَةٍ، أَوْ يَكُونُ نَحْوُ زَوْجَتِهِ عِنْدَهُ إذَا كَانَ يَرْتَاحُ مَعَهَا أَكْثَرَ، وَفِي الْعِيَادَةِ ثَوَابٌ عَظِيمٌ، فَقَدْ قَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «مَنْ عَادَ مَرِيضًا لَمْ يَزُلْ يَخُوضُ فِي الرَّحْمَةِ حَتَّى يَجْلِسَ فَإِذَا جَلَسَ يُغْمَسُ فِيهَا» . وَيُطْلَبُ مِنْ الزَّائِرِ أُمُورٌ يَحْصُلُ لَهُ بِهَا كَمَالُ الْأَجْرِ، مِنْهَا: قِلَّةُ السُّؤَالِ عَنْ حَالِهِ، وَإِظْهَارُ الشَّفَقَةِ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ الْمَرَضِ، وَقِلَّةُ الْجُلُوسِ عِنْدَهُ إلَّا أَنْ يَطْلُبَ مِنْهُ ذَلِكَ، وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ لَهُ

<<  <  ج: ص:  >  >>