عَطَسَ وَيَشْهَدَ جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ وَيَحْفَظَهُ إذَا غَابَ فِي السِّرِّ وَالْعَلَانِيَةِ وَلَا يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ وَالسَّلَامُ يُخْرِجُهُ
ــ
[الفواكه الدواني]
وَوَضْعُ يَدِهِ عَلَى بَعْضِ جَسَدِهِ إلَّا أَنْ يَكُونَ يَكْرَهُ ذَلِكَ، وَأَنْ يَجْلِسَ عِنْدَهُ بِخُشُوعٍ مِنْ غَيْرِ نَظَرٍ فِي عَوْرَةِ مَنْزِلِهِ، وَأَنْ يُبَشِّرَ بِالْمَثُوبَاتِ لِلْمَرِيضِ. وَمِنْ أَدْعِيَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِلْمَرِيضِ مَا فِي مُسْلِمٍ: «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا زَارَ مَرِيضًا أَوْ أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ قَالَ فِي دُعَائِهِ: أَذْهِبْ الْبَأْسَ رَبَّ النَّاسِ، اشْفِ أَنْتَ الشَّافِي لَا شِفَاءَ إلَّا شِفَاؤُك شِفَاءً لَا يُغَادِرُ سَقَمًا» أَيْ لَا يَتْرُكُ سَقَمًا، وَقَالَ أَيْضًا - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «مَا مِنْ مُسْلِمٍ يَعُودُ مُسْلِمًا فَيَقُولُ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَسْأَلُ اللَّهَ الْعَظِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ أَنْ يَشْفِيَك إلَّا شَفَاهُ اللَّهُ إلَّا أَنْ يَكُونَ حَضَرَ أَجَلُهُ» هَذَا مُحَصَّلُ مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ الْأَجْرِ لِلزَّائِرِ، وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ بِهِ كَمَالُ أَجْرِ الْمَرَضِ مِنْ تَكْفِيرِ الذُّنُوبِ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَاضَ كَفَّارَاتٌ لِلذُّنُوبِ، فَهِيَ أَنْ يُحَافِظَ عَلَى طَاعَةِ رَبِّهِ فِي مَرَضِهِ، فَلَا يُضَيِّعُهَا بَلْ يَأْتِي بِصَلَاتِهِ وَلَوْ مِنْ جُلُوسٍ أَوْ اضْطِجَاعٍ، وَأَنْ يُكْثِرَ الرَّجَاءَ، وَلَا يَقْنَطَ مِنْ عَفْوِ رَبِّهِ، وَلَا يُكْثِرَ الشَّكْوَى إلَّا عِنْدَ صَالِحٍ تُرْتَجَى بَرَكَةُ دُعَائِهِ، وَأَنْ لَا يَنْطِقَ لِسَانُهُ بِالْكَلَامِ الَّذِي لَا يَنْبَغِي فِي حَقِّ الْبَارِي، بَلْ يُلَاحِظُ أَنَّهُ الْمَالِكُ لِلْعِبَادِ يَفْعَلُ فِيهِمْ كَيْفَ شَاءَ، فَإِنْ خَفَّفَ فَبِمَحْضِ فَضْلِهِ، وَإِنْ شَدَّدَ فَبِعَدْلِهِ لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ الشَّافِيَ هُوَ اللَّهُ وَلَوْ كَانَ عِنْدَهُ حَكِيمٌ يُدَاوِيه، لِأَنَّ الْمُدَاوِيَ حَقِيقَةً هُوَ الَّذِي خَلَقَ الْمَرَضَ، وَجَوَازُ التَّدَاوِي لَا يُنَافِي التَّوَكُّلَ وَالِاعْتِمَادَ عَلَى اللَّهِ عَلَى الْقَوْلِ الْمُعْتَمَدِ مِنْ قَوْلِ الصُّوفِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَقَدْ كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَتَعَاطَى لِأَسْبَابِ التَّدَاوِي مَعَ أَنَّهُ أَعْظَمُ الْمُتَوَكِّلِينَ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
(وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَنْ (يُشَمِّتَهُ إذَا عَطَسَ) إذَا سَمِعَهُ يَقُولُ الْحَمْدُ لِلَّهِ أَوْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ الْإِتْيَانَ بِالْحَمْدِ لِلَّهِ لِسَمَاعِهِ تَشْمِيتَ غَيْرِهِ لَهُ مَثَلًا، وَجَرَى خِلَافٌ فِي تَنْبِيهٍ عَلَى الْحَمْدِ إذَا تَرَكَهُ لِيُشَمِّتَهُ وَيَظْهَرُ لِي أَنَّ الصَّوَابَ تَنْبِيهُهُ، كَمَا يُؤْخَذُ مِنْ تَنْبِيهِ الْإِمَامِ عَلَى مَا يُطْلَبُ مِنْهُ وَلِأَنَّهُ ذَرِيعَةٌ إلَى فِعْلِ مَطْلُوبٍ، وَاخْتُلِفَ فِي حُكْمِ التَّشْمِيتِ فَرَجَّحَ بَعْضٌ وُجُوبَهُ كِفَايَةً، وَرَجَّحَ بَعْضٌ سُنِّيَّتَهُ كِفَايَةً، وَحَقِيقَتُهُ الدُّعَاءُ لَهُ بِالْخُرُوجِ مِنْ حَالَةِ الْعُطَاسِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ كَرِيهَةٌ شَبِيهَةٌ بِحَالَةِ الْمَوْتِ، وَأَقَلُّ الدُّعَاءِ لَهُ أَنْ يَقُولَ لَهُ: يَرْحَمُك اللَّهُ وَيُشَمِّتُهُ وَلَوْ تَسَبَّبَ فِي الْعُطَاسِ، وَالتَّشْمِيتُ يُقَالُ بِالشِّينِ الْمُعْجَمَةِ وَبِالْمُهْمَلَةِ فَمَعْنَاهُ بِالْمُهْمَلَةِ جَعَلَك اللَّهُ عَلَى سَمْتٍ حَسَنٍ، وَبِالْمُعْجَمَةِ أَبْعَدَ اللَّهُ عَنْك الشَّمَاتَةَ بِأَنْ أَعَادَك إلَى الْحَالَةِ الْأُولَى، وَعَطَسَ مِنْ بَابِ ذَهَبَ وَنَصَرَ.
(وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَشْهَدَ) أَيْ يَحْضُرَ (جِنَازَتَهُ إذَا مَاتَ) لِأَجَلِ الصَّلَاةِ عَلَيْهِ وَمُوَارَاتِهِ، لِأَنَّ تَجْهِيزَ الْأَمْوَاتِ وَالْقِيَامَ بِأُمُورِهِمْ مِنْ فُرُوضِ الْكِفَايَةِ. (وَ) مِنْ حَقِّ الْمُؤْمِنِ عَلَى أَخِيهِ الْمُؤْمِنِ أَيْضًا أَنْ (يَحْفَظَهُ إذَا غَابَ) لِوُجُوبِ حِفْظِهِ عَلَيْهِ (فِي السِّرِّ) أَيْ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، فَلَا يُؤْذِيهِ بِبَاطِنِهِ بِأَنْ يُسِيءَ الظَّنَّ بِهِ أَوْ يَغْتَابَهُ أَوْ يَحْقِدَ عَلَيْهِ أَوْ يَحْسُدَهُ أَوْ يَتَعَدَّى عَلَى حَرِيمِهِ أَوْ أَمَانَتِهِ.
(وَ) فِي (الْعَلَانِيَةِ) فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ فَلَا يُؤْذِهِ بِحَضْرَةِ النَّاسِ فِي عِرْضِهِ وَلَا مَالِهِ وَلَا فِي جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِهِ، بَلْ يَجِبُ عَلَيْهِ الذَّبُّ عَنْهُ وَعَنْ عِرْضِهِ وَمَالِهِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى حَقِيَةِ تِلْكَ الْمَذْكُورَاتِ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاَللَّهِ مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ» وَوَرَدَ أَيْضًا أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ قَالَ: «حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ، قِيلَ: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: إذَا لَقِيته فَسَلِّمْ عَلَيْهِ، وَإِذَا دَعَاك فَأَجِبْهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَك فَانْصَحْ لَهُ، وَإِذَا عَطَسَ فَحَمِدَ اللَّهَ فَشَمِّتْهُ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتْبَعْهُ» . وَوَرَدَ أَيْضًا عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ ذَبَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ بِالْغَيْبِ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يَعْتِقَهُ مِنْ النَّارِ» .
وَفِي رِوَايَةٍ: «رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَوَرَدَ أَيْضًا: «مَنْ اُغْتِيبَ عِنْدَهُ أَخُوهُ الْمُسْلِمُ فَلَمْ يَنْصُرْهُ وَهُوَ مُسْتَطِيعٌ نُصْرَتَهُ أَدْرَكَهُ إثْمُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ» وَلَمَّا كَانَ يُتَوَهَّمُ مِنْ طَلَبِ السَّلَامِ عَلَى الْمُؤْمِنِ كُلَّمَا لَقِيَهُ إثْمُهُ بِتَرْكِ ذَلِكَ مُطْلَقًا قَالَ: (وَلَا) يَحِلُّ لِلْمُؤْمِنِ أَنْ (يَهْجُرَ أَخَاهُ) الْمُؤْمِنَ بِحَيْثُ لَا يُكَلِّمُهُ وَلَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ. (فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ) لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ» أَيْ مَعَ أَيَّامِهَا.
وَفِي رِوَايَةٍ زِيَادَةٌ: «يَلْتَقِيَانِ فَيُعْرِضُ هَذَا وَيَعْرِضُ هَذَا وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ» فَمَنْ زَادَ عَلَى التَّحْدِيدِ الْمَذْكُورِ فَهُوَ جُرْحَةٌ فِي شَهَادَتِهِ لِأَنَّهُ مُقَاطَعَةٌ وَمُدَابَرَةٌ، وَالْمُوَالَاةُ لِإِخْوَانِهِ الْمُؤْمِنِينَ وَاجِبَةٌ كَمَا تَقَدَّمَ، وَهَذَا إذَا هَجَرَهُ لِغَرَضٍ دُنْيَوِيٍّ، وَأَمَّا لَوْ كَانَ لِحَقِّ اللَّهِ بِأَنْ كَانَ لِمُلَابَسَتِهِ لِمَعْصِيَةٍ أَوْ لِأَجْلِ الْأَدَبِ وَالرَّدْعِ عَمَّا لَا يَحِلُّ، كَهَجْرِ الزَّوْجِ الزَّوْجَةَ لِزَجْرِهَا، وَكَهُجْرِ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ، وَالشَّيْخِ مَعَ تِلْمِيذِهِ حَتَّى يُقْلِعَ الْمَهْجُورُ عَمَّا لِأَجْلِهِ الْهَجْرُ فَلَا حَرَجَ فِيهِ وَلَوْ زَادَتْ الْمُدَّةُ فَوْقَ شَهْرٍ، وَمَفْهُومُ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ كَالْحَدِيثِ أَنَّ هِجْرَانَ الثَّلَاثِ جَائِزٌ، لِأَنَّهُ لَوْ حَرُمَ الْهِجْرَانُ مُطْلَقًا لَكَانَ فِي ذَلِكَ حَرَجٌ وَمَشَقَّةٌ، لِأَنَّ طَبْعَ الْإِنْسَانِ قَلَّ أَنْ يَنْفَكَّ عَنْ غَضَبٍ، فَالْهِجْرَان الْمُحَرَّمُ الزَّائِدُ عَلَى الثَّلَاثَةِ بِلَيَالِيِهَا إذَا كَانَ لِغَيْرِ حَقِّ اللَّهِ وَلِغَيْرِ الْأَدَبِ كَمَا قَدَّمْنَا، وَوَرَدَ: «أَنَّ أَبْوَابَ الْجَنَّةِ تُفْتَحُ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَيَوْمَ الِاثْنَيْنِ، فَيُغْفَرُ لِكُلِّ عَبْدٍ مُسْلِمٍ لَا يُشْرِكُ بِاَللَّهِ شَيْئًا إلَّا رَجُلًا كَانَتْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَجُلٍ شَحْنَاءُ فَيُقَالُ اُنْظُرُوا هَذَيْنِ حَتَّى يَصْطَلِحَا» .
وَلَمَّا قَدَّمَ حُرْمَةَ هِجْرَانِ الْمُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ ذَكَرَ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ: (وَالسَّلَامُ) الْوَاقِعُ مِنْ مُرْتَكِبِ الْهَجْرِ الْمُحَرَّمِ (يُخْرِجُهُ مِنْ) إثْمِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute