للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ ذِكْرُ اللَّهِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ

وَمِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا أَصْبَحَ وَأَمْسَى «اللَّهُمَّ بِك نُصْبِحُ وَبِك

ــ

[الفواكه الدواني]

وَلَا يَصِلُ أَحَدٌ إلَى اللَّهِ إلَّا بِدَوَامِ الذِّكْرِ.

قَالَ عَبْدُ الْوَهَّابِ: لِأَنَّ الْعَبْدَ إذَا أَكْثَرَ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَجَدَّدَ خُشُوعُهُ وَكَثُرَ إيمَانُهُ وَازْدَادَ يَقِينُهُ وَبَعُدَتْ الْغَفْلَةُ عَنْ قَلْبِهِ، وَكَانَ إلَى التُّقَى أَقْرَبَ، وَعَنْ الْمَعَاصِي أَبْعَدَ، وَهَذَا حَامِلٌ عَلَى طَاعَةِ اللَّهِ، وَوَسِيلَةٌ إلَى النَّجَاةِ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ، لِأَنَّ شَأْنَ الْكَرِيمِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ طَائِعًا، وَإِنَّمَا قُلْنَا الذِّكْرُ الْكَامِلُ لِأَنَّ الذِّكْرَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: ذِكْرُ اللِّسَانِ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ، فَذِكْرُ اللِّسَانِ بِهِ يَصِلُ الْعَبْدَ إلَى اسْتِدَامَةِ فِكْرِ الْقَلْبِ وَالتَّأْثِيرِ بِذِكْرِ الْقَلْبِ، فَإِذَا كَانَ ذَاكِرًا بِلِسَانِهِ وَقَلْبِهِ فَهُوَ الْكَمَالُ فِي وَصْفِهِ فِي حَالِ سُلُوكِهِ. وَمِنْ خَصَائِصِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُوَقَّتٍ بِزَمَانٍ، بَلْ مَا مِنْ وَقْتٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ إلَّا وَالْعَبْدُ مَأْمُورٌ بِهِ إمَّا عَلَى جِهَةِ الْفَرِيضَةِ أَوْ النَّفْلِيَّةِ، وَالصَّلَاةُ مَعَ كَوْنِهَا أَشْرَفَ الْعِبَادَاتِ لَا تَكُونُ إلَّا فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ، وَلَمَّا كَانَ الذِّكْرُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: لِسَانِيٍّ وَقَلْبِيٍّ بَيَّنَ الْأَفْضَلَ مِنْهُمَا بِقَوْلِهِ: (وَقَالَ عُمَرُ) بْنُ الْخَطَّابِ الْمُلَقَّبُ بِالْفَارُوقِ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَحَدُ الْخُلَفَاءِ الْأَرْبَعَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - (أَفْضَلُ) بِمَعْنَى أَكْثَرُ ثَوَابًا (مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ بِاللِّسَانِ) وَخَبَرُ أَفْضَلَ (ذِكْرُ اللَّهِ) بِالْقَلْبِ (عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ) بِمَعْنَى أَنَّ الْإِنْسَانَ عِنْدَ سَمَاعِ أَمْرِ خَالِقِهِ وَنَهْيِهِ يَسْتَحْضِرُ بِقَلْبِهِ الْحَقَّ - جَلَّ وَعَلَا - وَيَسْتَحْضِرُ اطِّلَاعَ رَبِّهِ عَلَيْهِ فِي سِرِّهِ وَعَلَانِيَتِهِ، وَأَنَّ عِلْمَهُ - تَعَالَى - بِجَمِيعِ أَفْعَالِهِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ، هَذَا مَعْنَى الذِّكْرِ بِالْقَلْبِ، وَلِذَلِكَ كَانَ الذَّكَرُ الْقَلْبِيُّ أَفْضَلَ مِنْ اللِّسَانِيِّ، وَقِيلَ: مَعْنَى ذِكْرِهِ - تَعَالَى - عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ الْوُقُوفَ عِنْدَ الْحُدُودِ، إنْ رَأَى وَاجِبًا ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَفَعَلَهُ، وَإِنْ رَأَى مَحْظُورًا ذَكَرَ اللَّهَ بِقَلْبِهِ فَاجْتَنَبَهُ. وَمَعْنَى ذِكْرِ اللَّهِ ذِكْرُ ثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، فَقَوْلُهُ: عِنْدَ أَمْرِهِ أَيْ بِالِامْتِثَالِ وَعِنْدَ نَهْيِهِ بِالِاجْتِنَابِ. وَلِهَذَا كَانَ مِنْ دُعَاءِ الْعُظَمَاءِ: اللَّهُمَّ إنِّي أَسْأَلُك أَنْ لَا تَرَانَا حَيْثُ نَهَيْتَنَا، وَلَا تَفْقِدَنَا مِنْ حَيْثُ أَمَرْتَنَا.

وَقَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذِكْرُ اللَّهِ ضَرْبَانِ: ذِكْرٌ بِالْقَلْبِ فَقَطْ، وَذِكْرٌ بِاللِّسَانِ أَيْ مَعَ الْقَلْبِ، وَذِكْرُ الْقَلْبِ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا وَهُوَ أَرْفَعُ الْأَذْكَارِ وَأَجَلُّهَا: التَّفَكُّرُ فِي عَظَمَةِ اللَّهِ وَجَلَالِهِ وَآيَاتِهِ وَمَصْنُوعَاتِهِ الْعُلْوِيَّةِ وَالسُّفْلِيَّةِ، وَالثَّانِي: ذِكْرُهُ تَعَالَى بِمَعْنَى اسْتِحْضَارِهِ بِالْقَلْبِ عِنْدَ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ، فَيَمْتَثِلُ مَا أَمَرَ بِهِ وَيَنْتَهِي عَمَّا نَهَى عَنْهُ، وَيَقِفُ عَمَّا أَشْكَلَ عَلَيْهِ، وَالْأَوَّلُ مِنْ هَذَيْنِ أَفْضَلُ مِنْ الثَّانِي، وَالثَّانِي أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ بِاللِّسَانِ أَيْ مَعَ الْقَلْبِ، وَأَمَّا الذِّكْرُ بِمُجَرَّدِ اللِّسَانِ فَهُوَ أَضْعَفُ الْأَذْكَارِ وَإِنْ كَانَ فِيهِ ثَوَابٌ كَمَا جَاءَتْ بِهِ الْأَخْبَارُ. وَذَكَرَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَغَيْرُهُ اخْتِلَافَ السَّلَفِ فِي ذِكْرِ الْقَلْبِ وَاللِّسَانِ أَيُّهُمَا أَفْضَلُ.

قَالَ الْقَاضِي: وَالْخِلَافُ عِنْدِي إنَّمَا يُتَصَوَّرُ فِي مُجَرَّدِ ذِكْرِ الْقَلْبِ تَسْبِيحًا وَتَهْلِيلًا وَشَبَهَهُمَا، وَعَلَى هَذَا يَدُلُّ كَلَامُهُمْ لِأَنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ فِي الذِّكْرِ الْخَفِيِّ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ أَوَّلًا فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يُقَارِبُهُ ذِكْرُ اللِّسَانِ فَكَيْفَ يُفَاضِلُهُ، وَالْمُعْتَبَرُ مِنْ ذِكْرِ اللِّسَانِ أَنْ يَكُونَ مِنْ حُضُورِ الْقَلْبِ فَإِنْ كَانَ لَاهِيًا فَلَا، وَاحْتَجَّ مَنْ رَجَّحَ ذِكْرَ الْقَلْبِ بِأَنَّ عَمَلَ السِّرِّ أَفْضَلُ وَيُقَوِّيهِ قَوْلُ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -: لَأَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ فِي نَفْسِي أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَذْكُرَهُ بِلِسَانِي سَبْعِينَ مَرَّةً. وَمَنْ رَجَّحَ ذِكْرَ اللِّسَانِ قَالَ: لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَكْثَرُ لِأَنَّهُ زَادَ بِاسْتِعْمَالِ اللِّسَانِ. وَوَقَعَ خِلَافٌ فِي كَتْبِ الْمَلَائِكَةِ الذِّكْرَ الْقَلْبِيَّ فَقِيلَ تَكْتُبُهُ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُكْتَبْ لَمَا طُلِبَ فَضْلًا عَنْ كَوْنِهِ أَفْضَلَ، وَلَا مَانِعَ مِنْ عِلْمِ الْمَلَائِكَةِ بِمَا فِي الْقَلْبِ، وَقِيلَ لَا يُكْتَبُ وَقَدْ عَلِمْت أَنَّ الرَّاجِحَ الْأَوَّلُ.

(تَتِمَّاتٌ) الْأُولَى: قَالَ الْعِزُّ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ: الذِّكْرُ كُلُّهُ لَا يَكُونُ إلَّا بِجُمْلَةٍ اسْمِيَّةٍ أَوْ فِعْلِيَّةٍ، فَقَوْلُ الذَّاكِرِ: اللَّهُ مُقْتَصِرًا عَلَيْهِ مِنْ الْبِدَعِ وَأَفْعَالِ الْجَهَلَةِ، وَنَحْوُهُ لِلْبُلْقِينِيِّ وَسَلَّمَهُ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَوَقَعَ التَّوَقُّفُ فِي حُصُولِ الثَّوَابِ فِيهِ وَاسْتَظْهَرَ بَعْضُ الشُّيُوخِ أَنَّ فِيهِ ثَوَابًا مَا.

الثَّانِيَةُ: ذَهَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إلَى أَنَّ التَّسْبِيحَ أَفْضَلُ مِنْ الذِّكْرِ، وَرَدَّهُ ابْنُ عَرَفَةَ بِأَنَّ الْحَقَّ أَنَّ الذِّكْرَ أَفْضَلُ مِنْ التَّسْبِيحِ لِأَنَّهُ إثْبَاتٌ وَالتَّسْبِيحُ نَفْيٌ، وَلِأَنَّ النَّصَّ وَرَدَ فِيهِ: «أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» مَعَ أَنَّ الصِّفَاتِ الثُّبُوتِيَّةَ أَفْضَلُ مِنْ السَّلْبِيَّةِ وَذَكَرَ ذَلِكَ الْعَلَّامَةُ اللَّقَانِيُّ.

الثَّالِثَةُ: شَرَطَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي حُصُولِ ثَوَابِ الذِّكْرِ فَهْمُ الْمَعْنَى وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِ الْعَلَّامَةِ السَّنُوسِيِّ: لَا يَنْتَفِعُ الدَّاخِلُ فِي الْإِسْلَامِ بِلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فِي خَلَاصِ بَدَنِهِ مِنْ النَّارِ إلَّا إذَا قَالَهَا مَعَ فَهْمِ الْمَعْنَى وَلَوْ بِطَرِيقِ الْإِجْمَالِ. وَأَقُولُ: يَنْبَغِي تَخْصِيصُ هَذَا بِغَيْرِ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا الْقُرْآنُ فَيُثَابُ عَلَيْهِ الْقَارِئُ وَلَوْ لَمْ يَفْهَمْ مَعْنَاهُ. وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْقُرْآنَ يُتَعَبَّدُ بِأَلْفَاظِهِ.

الرَّابِعَةُ: أَفْضَلُ الْأَذْكَارِ الْقُرْآنُ لِمَا وَرَدَ مِنْ أَنَّ لِلْقَارِئِ بِكُلِّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ، وَإِنْ كَانَ عَلَى طَهَارَةٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةً، وَإِنْ كَانَ فِي صَلَاةٍ فَلَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ مِائَةُ حَسَنَةٍ، إنْ صَلَّى مِنْ قِيَامٍ وَإِنْ صَلَّى مِنْ جُلُوسٍ كَانَ لَهُ بِكُلِّ حَرْفٍ خَمْسُونَ حَسَنَةٍ، وَلَا يُشْكِلُ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «أَفْضَلُ مَا قُلْته أَنَا

<<  <  ج: ص:  >  >>