للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

نُمْسِي وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ» وَيَقُولُ فِي الصَّبَاحِ «وَإِلَيْك النُّشُورُ» وَفِي الْمَسَاءِ «وَإِلَيْك الْمَصِيرُ» وَرُوِيَ مَعَ ذَلِكَ «اللَّهُمَّ

ــ

[الفواكه الدواني]

وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ» فَإِنَّهُ مِنْ حَيْثُ الدُّخُولُ فِي الْإِسْلَامِ.

١ -

وَلَمَّا انْقَضَى الْكَلَامُ عَلَى الذِّكْرِ شَرَعَ فِي الدُّعَاءِ وَفِي تَأْخِيرِهِ عَنْ الذِّكْرِ الْإِشْعَارُ بِأَفْضَلِيَّةِ الذِّكْرِ عَلَيْهِ، وَحَقِيقَةُ الدُّعَاءِ رَفْعُ الْحَاجَاتِ إلَى رَافِعِ الدَّرَجَاتِ، وَمَذْهَبُ أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّهُ مَطْلُوبٌ شَرْعًا، وَأَنَّهُ يَنْفَعُ الْأَحْيَاءَ وَالْأَمْوَاتَ، فَيَقْتَضِي اللَّهُ بِهِ الْحَاجَاتِ وَيَدْفَعُ بِهِ الْبَلِيَّاتِ، وَيَكْشِفُ بِهِ الْمُلِمَّاتِ، وَيَرْفَعُ الدَّرَجَاتِ، وَلَوْلَا أَنَّهُ نَافِعٌ لَمَا أَمَرَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - بِهِ بِقَوْلِهِ: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: ٦٠] قَالَ فِي الْجَوْهَرَةِ:

وَعِنْدَنَا أَنَّ الدُّعَاءَ يَنْفَعُ ... كَمَا مِنْ الْقُرْآنِ وَعْدًا يُسْمَعُ

وَفِي الْحَدِيثِ «الدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ» وَيُطْلَبُ وَلَوْ بِمَا عَلِمْت السَّلَامَةَ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -: «اللَّهُمَّ إنِّي أَعُوذُ بِك مِنْ الْمَأْثَمِ وَالْمَغْرَمِ» لِأَنَّ الدُّعَاءَ فِي نَفْسِهِ عِبَادَةٌ، وَقَدْ دَعَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - رَبَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ كَيَوْمِ بَدْرٍ وَعَلَى قُرَيْشٍ وَعَلَى قَاتِلِي أَهْلِ بِئْرِ مَعُونَةَ وَعَلَى الْمُسْتَهْزِئِينَ، وَأَجْمَعَ عَلَيْهِ السَّلَفُ وَالْخَلَفُ، وَحُكْمُ الدُّعَاءِ فِي الْأَصْلِ النَّدْبُ، وَقَدْ يَعْرِضُ لَهُ الْوُجُوبُ كَالدُّعَاءِ عَلَى الْجِنَازَةِ، أَوْ الْحُرْمَةُ كَالدُّعَاءِ عَلَى شَقِيٍّ بِسُوءِ الْخَاتِمَةِ، وَالْكَرَاهَةُ كَالدُّعَاءِ بِشَيْءٍ يَكُونُ وَسِيلَةً لِمَكْرُوهٍ.

قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: وَلِإِجَابَتِهِ شُرُوطٌ فِي الدَّاعِي وَهِيَ أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى تَحْصِيلِ مَطْلُوبِهِ إلَّا اللَّهُ، وَأَنْ يَدْعُوَ بِنِيَّةٍ صَادِقَةٍ مَعَ حُضُورِ قَلْبٍ، وَأَنْ يَجْتَنِبَ أَكْلَ الْحَرَامِ، وَأَنْ لَا يَمَلَّ مِنْ الدُّعَاءِ فَيَتْرُكَ وَيَقُولُ: دَعَوْت وَدَعَوْت فَلَمْ يُسْتَجَبْ لِي، وَشُرُوطُهُ فِي الْمَدْعُوِّ بِهِ وَهِيَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْأُمُورِ الْجَائِزَةِ، فَلَا يَدْعُو بِمَا فِيهِ إثْمٌ وَلَا قَطِيعَةُ رَحِمٍ وَلَا إضَاعَةُ حُقُوقِ الْمُسْلِمِينَ، وَلَهُ آدَابٌ مِنْهَا: التَّعْمِيمُ فِي الدُّعَاءِ. وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ بِالْمَأْثُورِ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَعَنْ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَا يَخْتَرِعُ مِنْ نَفْسِهِ شَيْئًا يَدْعُو بِهِ مَعَ وُجُودِ الْمَأْثُورِ. وَمِنْهَا: كَوْنُهُ غَيْرَ مَرْجُوٍّ لِعَدَمِ التَّكَلُّمِ. وَمِنْهَا: عَدَمُ اللَّحْنِ فِيهِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى النُّطْقِ بِالصَّوَابِ. وَمِنْهَا: ابْتِدَاؤُهُ بِالْحَمْدِ وَالصَّلَاةِ عَلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَمِنْهَا: الْعَزْمُ فِيهِ فَلَا يَدْعُو وَيُعَلِّقُ بِقَوْلِهِ إنْ شِئْت يَا اللَّهُ. وَمِنْهَا: تَحَرِّي أَوْقَاتِ الْإِجَابَةِ كَالسَّحَرِ، وَعِنْدَ النِّدَاءِ وَعِنْدَ الصَّفِّ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَعِنْدَ نُزُولِ الْمَطَرِ وَفِي السُّجُودِ وَعِنْدَ خَتْمِ الْقُرْآنِ. وَمِنْهَا: عَدَمُ الدُّعَاءِ بِالْعَجَمِيَّةِ مَعَ الْقُدْرَةِ عَلَى الْعَرَبِيَّةِ. وَمِنْهَا: الْبُدَاءَةُ بِنَفْسِهِ. وَمِنْهَا: الدُّعَاءُ بِسَكِينَةٍ وَوَقَارٍ.

وَاخْتُلِفَ هَلْ يَرْفَعُ يَدَيْهِ عِنْدَ الدُّعَاءِ أَوْ لَا؟ وَعَلَى الرَّفْعِ فَهَلْ يَمْسَحُ وَجْهَهُ بِهِمَا عَقِبَهُ أَمْ لَا؟ وَاَلَّذِي فِي التِّرْمِذِيِّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: «أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ إذَا رَفَعَ يَدَيْهِ فِي الدُّعَاءِ لَمْ يَحُطَّهُمَا حَتَّى يَمْسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ» . فَيُفِيدُ أَنَّهُ كَانَ يَرْفَعُهُمَا وَيَمْسَحُ بِهِمَا وَجْهَهُ.

ثُمَّ شَرَعَ فِي أَدْعِيَةٍ مَأْثُورَةٍ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي أَوْقَاتٍ مَخْصُوصَةٍ بِقَوْلِهِ: (وَمِنْ دُعَاءِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا أَصْبَحَ) أَيْ دَخَلَ فِي الصَّبَاحِ (وَ) كُلَّمَا (أَمْسَى) أَيْ دَخَلَ فِي الْمَسَاءِ فَأَصْبَحَ وَأَمْسَى هُنَا تَامَّتَانِ.

وَفِي الْإِتْيَانِ بِكُلَّمَا الْإِشَارَةُ إلَى الْمُدَاوَمَةِ عَلَى هَذَا الدُّعَاءِ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ: (اللَّهُمَّ) أَيْ يَا اللَّهُ (بِك نُصْبِحُ وَبِك نُمْسِي) وَمَعْنَى نُصْبِحُ وَنُمْسِي بِك أَيْ بِقُدْرَتِك. (وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ) وَقَدَّمَ لَفْظَ بِك عَلَى الْعَوَامِلِ فِيهَا لِلدَّلَالَةِ عَلَى الِاخْتِصَاصِ عَلَى حَدِّ: إيَّاكَ نَعْبُدُ أَيْ لَيْسَ الدُّخُولُ فِي الصَّبَاحِ وَالْمَسَاءِ وَلَيْسَ الْإِحْيَاءُ وَالْإِمَاتَةُ إلَّا بِقُدْرَةِ اللَّهِ تَعَالَى.

(وَ) كَانَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا فَرَغَ مِنْ هَذَا الدُّعَاءِ (يَقُولُ فِي الصَّبَاحِ وَإِلَيْك النُّشُورُ) أَيْ الْقِيَامُ مِنْ نَوْمِنَا هَذَا مَعْنَاهُ هُنَا، وَأَمَّا مَعْنَاهُ فِي اللُّغَةِ فَهُوَ انْتِشَارُ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَاسْتِعْمَالُ النُّشُورِ فِي الْقِيَامِ مِنْ النَّوْمِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِعَارَةِ، وَطَرِيقُهَا أَنَّهُ شَبَّهَ الْقِيَامَ مِنْ النَّوْمِ بِالْبَعْثِ الَّذِي هُوَ إحْيَاءُ الْأَمْوَاتِ وَإِعَادَتُهُمْ كَمَا كَانُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَالْمُلَاءَمَةُ بَيْنَهُمَا عَوْدُ التَّمْيِيزِ بِكُلٍّ مِنْهُمَا، ثُمَّ اُعْتُبِرَ اللَّفْظُ الْمَوْضُوعُ لِلْبَعْثِ وَهُوَ النُّشُورُ لِانْتِشَارِ النَّاسِ مِنْ قُبُورِهِمْ حِينَ يَخْرُجُونَ مِنْهَا لِلْمُشَبَّهِ الَّذِي هُوَ الْقِيَامُ مِنْ النَّوْمِ، فَالِاسْتِعَارَةُ تَصْرِيحِيَّةٌ لِلتَّصْرِيحِ بِاللَّفْظِ الْمُسْتَعَارِ وَالْقَرِينَةُ هُنَا حَالِيَّةٌ.

(وَ) كَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - يَقُولُ زِيَادَةً عَلَى مَا سَبَقَ: (فِي الْمَسَاءِ وَإِلَيْك الْمَصِيرُ) أَيْ وَإِلَيْكَ الْمَرْجِعُ، وَمَعْنَى إلَيْك النُّشُورُ وَالْمَصِيرُ أَنَّ كُلًّا مِنْ الْإِحْيَاءِ وَالْإِمَاتَةِ مُنْتَهٍ إلَيْك يَا اللَّهُ، وَمَعْنَى انْتِهَائِهِ إلَيْهِ أَنَّهُ بِقُدْرَتِهِ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - وَإِرَادَتِهِ، وَفِيهِ اسْتِعَارَةٌ أَيْضًا لِتَشْبِيهِ النَّوْمِ الْمُقْبِلِ عَلَيْهِ بِالْمَوْتِ كَأَنَّهُ أَقْبَلَ عَلَى الْمَوْتِ، وَالْعِلَاقَةُ ذَهَابُ التَّمْيِيزِ عِنْدَ كُلٍّ، وَلَعَلَّ مَعْنَى الرُّجُوعِ إلَى اللَّهِ بَعْدَ الْمَوْتِ رُجُوعُهُ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ مِنْ عَالِمِ الشَّهَادَةِ. وَهَذَا الْحَدِيثُ خَرَّجَهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ بِلَفْظِ: «كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إذَا أَصْبَحَ قَالَ: اللَّهُمَّ بِك أَصْبَحْنَا وَبِك أَمْسَيْنَا وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ، وَإِذَا أَمْسَى قَالَ: اللَّهُمَّ بِك أَمْسَيْنَا وَبِك أَصْبَحْنَا وَبِك نَحْيَا وَبِك نَمُوتُ وَإِلَيْك الْمَصِيرُ» .

وَالدُّعَاءُ أَوْ الذِّكْرُ الْمَطْلُوبُ عِنْدَ الصَّبَاحِ يَدْخُلُ وَقْتُهُ بِطُلُوعِ الْفَجْرِ، لَكِنَّ الْأَحْسَنَ فِعْلُهُ بَعْدَ صَلَاةِ الصُّبْحِ إلَى

<<  <  ج: ص:  >  >>