ويظهر أنّ المطاردين داخلهم القنوط من العثور عليهما في هذا الفج، فتراكضوا عائدين، وروى أحمد «١» : «أنّ المشركين اقتفوا الأثر، حتى إذا بلغوا الجبل- جبل ثور- اختلط عليهم، فصعدوا الجبل، مرّوا بالغار، فرأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو دخل ها هنا أحد لم يكن نسج العنكبوت على بابه، فمكث فيه ثلاث ليال» .
ورواية أحمد حسنة، وإن لم ترد بها السنن الصحاح، ولم يرد كذلك ذكر لحمائم باضت على فم الغار أو غير ذلك.
قال تعالى في ذكر الهجرة: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٠)[التوبة] .
والجنود التي يخذل بها الباطل، وينصر بها الحق، ليست مقصورة على نوع معين من السلاح، ولا صورة خاصة من الخوارق، إنّها أعم من أن تكون مادية أو معنوية، وإذا كانت مادية فإنّ خطرها لا يتمثّل في ضخامتها، فقد تفتك جرثومة لا تراها العين بجيش ذي لجب: وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ [المدثر: ٣١] .
ومن صنع الله لنبيّه أن تعمى عنه عيون عداته، وهو منهم على مد الطرف، ولم يكن ذلك محاباة من القدر لقوم فرّطوا في استكمال أسباب النجاة، بل هو مكافأة من القدر لقوم لم يدعوا وسيلة من وسائل الحذر إلا اتخذوها، وكم من خطة يضعها أصحابها، فيبلغون بها نهاية الإتقان تمرّ بها فترات عصيبة لأمور فوق
(١) في المسند، رقم (٣٢٥١) ، من طريق عثمان الجزري: أنّ مقسما مولى ابن عباس أخبره عن ابن عباس به، وحسّن المؤلف إسناده، وكأنّه تبع فيه ابن كثير في (البداية: ٣/ ١٨٠- ١٨١) . وتبعه أيضا الحافظ في (الفتح: ٧/ ١٨٨) ، وفي تحسينه نظر: فإنّ عثمان الجزري وهو ابن عمرو بن ساج، قال ابن أبي حاتم في (الجرح والتعديل: ٣/ ١/ ١٦٢) عن أبيه: لا يحتجّ به. وقال العقيلي: «لا يتابع في حديثه» ولهذا قال الحافظ ابن حجر في (التقريب) : فيه ضعف. ولا تقوّيه الشواهد التي ذكرها ابن كثير وابن حجر من رواية الحسن البصري؛ فإنّه- مع كونه مرسلا- فيه بشار الخفاف، وهو ابن موسى، وليس بثقة كما قال ابن معين، والنّسائي، وضعّفه غيرهما.