والحكمة- أو قل: القوّة والسياسة- لمحمد بن عبد الله، فعالج بها الاثام الجاثمة على صدر الأرض، فما استعصى على الأناة والحلم استكان للتأديب والحكم.
وبهذا المنهج الجامع بين العدل والرحمة أخذت رقعة الباطل تنكمش رويدا رويدا حتى اختفت الجاهلية ولوثاتها، وثبت الإسلام، ثم أصاخ العرب- بعد ما لان قيادهم- إلى صوت الحقّ الأخير في حجة الوداع.
وفي يوم عرفة من هذه الحجة العظيمة نزل قول الله عز وجلّ:
الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً ...
[المائدة: ٣] .
وعند ما سمعها عمر بكى، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: إنّه ليس بعد الكمال إلا النقصان. وكأنّه استشعر وفاة النبيّ صلوات الله عليه وسلامه.
والحقّ أن مشاعر التوديع للحياة والأحياء كانت تنضح بها بعض العبارات التي ترد على لسان الرسول صلى الله عليه وسلم، منها ما سبق ذكره في خطبته بالموسم، ومنها ما يقع في أثناء تعليمه الوفود المحتشدة حوله، كقوله عند جمرة العقبة: «خذوا عنّي مناسككم فلعلّي لا أحجّ بعد عامي هذا» «١» .
[إلى المدينة:]
فلما قضى الرسول صلى الله عليه وسلم مناسكه حثّ الرّكاب إلى المدينة المطهرة، لا ليأخذ حظّا من الراحة، بل ليستأنف حياة الكفاح والكدح لله.
إنّ المبطلين لا يدعون لأهل الحقّ مهلة يستجمّون فيها.
وأصحاب الرسالات أنفسهم لا يستعيدون نشاطهم في القعود عن العمل، بل يستمدّون الطاقة على العمل من الشعور بالواجب.
وراحتهم الكاملة يوم يرون بواكير نجاحه دانية القطاف.
قفل الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ليعبّئ جيشا اخر يقاتل به الروم.
فإنّ كبرياء هذه الدولة على الإسلام، جعلتها تأبى عليه حقّ الحياة، وحملها على أن تقتل من أتباعها من يدخل فيه.
(١) صحيح، رواه مسلم وغيره من حديث جابر المشار إليه انفا.